"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"

د. محمد المجالي*

لا أريد لذكرى الكرامة أن تمر من دون ربط لها بواقع أمتنا المتحرك نحو التحرر من جهة، وبماض قريب كنا فيه فريسة سهلة لأعدائنا من جهة ثانية، وبسنن النصر العامة التي أكدها الله سبحانه في كتابه ورسوله في سنته من جهة ثالثة. وهي أمور تعنينا جميعا، إذ لها علاقة بمصيرنا وهيبتنا ووجودنا، ولا يفكر في حقيقتها إلا العقلاء الحريصون على أمتهم وأوطانهم وكرامتهم، لا يحملون همّهم الخاص فيكونون أنانيين، بل يحملون همّ الأمة؛ فهم عظماء بعظم مسؤوليتهم ورحابة فكرهم وسعة أفقهم وشفقتهم على الأمة بل على البشرية كلها، لأنهم أصحاب رسالة عالمية للبشرية كلها، لا أصحاب رسالة قومية محدودة، وصدق الله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء، الآية 107).اضافة اعلان
إن من أهم ما يميز معركة الكرامة هو توفر الإرادة. فالجندي والقائد معا كانا على مستوى عالٍ من توفر الإرادة لدحر عدوٍ مستهين بقدراتك وكرامتك. وأركّز على الإرادة لأن أصعب ما في الإنسان أن يكون مسلوب الإرادة، وحينها يكون مجرد صورة بلا أثر، يكون عبدا لا قرار له ولا سيادة؛ ملكها المسلمون قديمًا فكانوا أمة الحضارة والعزة، لم يحل بينهم وبين تحقيق أي هدف أي حائل، ووصلت دولتهم في سنين معدودة إلى الأندلس غربا والصين شرقًا، وبنوا حضارة يشهد لها العدو قبل الصديق. بنوها ابتداء على كرامة الإنسان وتأكيد حقوقه، فتحرر الإنسان، وحين يتحرر يبدع ويتألق، لأنه حينها صاحب إرادة، ومن دون ذلك هو مجرد عبد عند أسياده، لا همّ له ولا تفكير إلا في قوته ومسكنه، فلا نتوقع أفقه أبعد من لقيمات يعيش بها، أو مسكن يضيّق تفكيره وأحلامه بقدر مساحته.
توفرت إرادة القتال فكانت النتيجة المشرفة، كما توفرت عند أي حر فكانت النتيجة إياها. فلا عبرة بقوة خصم وعدد وعدة، فالإرادة المشفوعة بعقيدة ويقين وحسن توكل على الله تصنع المستحيل. والله يؤكد هذا بقوله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" (البقرة، الآية 249). ونظرة سريعة على أعداد المسلمين في معظم معاركهم عبر التاريخ تدل على أنهم كانوا القلة ولكنهم قهروا أعداءهم.
كتب الله القتال وهو كره لنا، ولكنه عندما كتبه يعلم أنّ أعداءنا لا يمكن أن تلين لهم قناة، أو يهدأ لهم بال إلا بتحقيق طموحاتهم وآمالهم. وقد ابتليت هذه المنطقة عبر التاريخ بصراع وتنازع على هذه الأرض المباركة. هو قدرها أن ترتوي بدماء الشهداء؛ فيها آلاف من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما أكثر من ذلك من التابعين، وغيرهم ممن بذل وضحى على مر الزمن. غزاها الصليبيون عدة مرات وقتلوا وخربوا، وغزاها التتار فعاثوا فيها الفساد، وكانت الأيام دولا كما هي سنة الله حين يتقاعس أهل الحق عن حقهم وواجبهم. ثم كان الاستعمار الحديث والتمكين لعدو لئيم مراوغ خبيث، مارس خبثه وحيلته وخداعه على الأنبياء عموما، وعلى نبينا محمد خصوصا، فكان الموقف منهم ما أعلمتنا كتب السيرة، إخراج لهم من المدينة، وقتال من قاتل منهم. ولنا أن نستذكر بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة ويهود خيبر وتيماء، كلهم لهم قصص في تآمر أو نقض عهد أو قتال للمؤمنين، وهذا ديدنهم ولا يمكن تغييره، فكان وجودهم بين المسلمين في عصرنا هذا خنجرا في خاصرة الأمة، تدفع الأمة كلها ويلات وجودهم.
ولست معنيا الآن بالحديث عن الحروب معهم في عصاباتهم قبل العام 1948 وبعده، ولا في الحديث عن حرب 1967، ولكنني معنيّ بمعركة الكرامة التي توفرت فيها إرادة حرة وثقة بالنفس من جانب، وغرور وتبجح من جانب آخر. ولا نريد أن ننسى طموحات هذا العدو، ولو تظاهر بالسلم والعهد والوفاء، ولو تباكى أمام العالم في أنه يريد حياة آمنة؛ فقد كانت نيته احتلال مرتفعات الأردن الشرقية. عدو ينطلق من عقيدة مفادها أن دولته من النيل إلى الفرات، ويسير وفق توجيهات توراة محرفة وكتب أخرى عندهم من تأليف متعصبيهم، ببناء هيكل مزعوم على أنقاض المسجد الأقصى. تلك الكتب التي استهزأت بالإنسان فجعلت غير اليهود بالنسبة لليهود عبارة عن مخلوقات وجدت لخدمتهم؛ فهم شعب الله المختار، ونحن حمير خلقنا لخدمتهم. هذه النفسية المستعلية هي التي جعلتهم ينتبهون –وقد عادتهم الشعوب كلها وازدرتهم- إلى ما به يسيطرون على الأمم، فركزوا على المال والإعلام، وخططوا لمستقبلهم فيما يعرف بـ"بروتوكولات حكماء صهيون"؛ فشكلوا "اللوبيات"، واستطاعوا السيطرة على قوى التأثير في العالم، حتى لو اشتكى يهودي في منطقة تداعت له صيحات الإغاثة من كل مكان، وهذا من العلو الذي أخبرنا الله عنه أنه سيكون لبني إسرائيل نتيجة إفسادهم في الأرض.
ويشاء الله أن تنتصر إرادة المستضعفين على إرادة المستكبرين، ويتحقق وعد الله الملازم لفرض القتال ضد الأعداء، فقد قال الله تعالى: "ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون، وكان الله عليما حكيما" (النساء، الآية 104). وهم أحرص الناس على حياة، وهم أجبن الناس كما دلت كتب السيرة من جهة، وكما دلت تجارب الانتفاضات الحديثة من جهة أخرى.
لو توفرت الإرادة السياسية والعسكرية في أمتنا اليوم لكان حالها غير هذا، لكنّا لاعبين مؤثرين حقيقيين، لا مجرد شعوب تعيش على الهامش موجَّهة حسب إرادة القوى العظمى التي أخذت حقوقا ليست لها وانتزعتها بعد نشوة انتصار في الحرب العالمية الثانية، لتكون الشعوب المسلمة كلها بلا قيمة تأثيرية حقيقية، يتحكمون في خيراتنا وثرواتنا وقراراتنا السيادية، ولو صحا ضمير قائد هنا أو هناك لقامت الدنيا ضده.
نريد إرادة ترتفع بالإنسان إلى مستوى كرامته وحريته. وعلى الحكومات أن تدرك أن قوتها الحقيقية بقوة شعوبها الحرة. حين تلتئم إرادة القيادة الحرة بإرادة الشعوب الحرة، فهذا أقوى سلاح تستطيع من خلاله إقناع العالم كله بوجودنا وحقوقنا. وقد قيل إن الحق لا يُهدى ولكن يُنتزع، ولا بد لهذا من إرادة، ولا بد للإرادة من حرية للإنسان وكرامة.


*عميد كلية الدراسات العليا في الجامعة الأردنية.