نموذج مادلين أولبرايت..!

علاء الدين أبو زينة  توفيت مادلين أولبرايت، وزيرة خارجية الولايات المتحدة في عهد بيل كلينتون، من 1996 وحتى 2001. اسمها الأصلي ماري آنا كوربولوفا. لاجئة من تشيكوسلوفاكيا السابقة، كانت عائلتها قد تحولت من اليهودية إلى المسيحية، وفرت من البلد عندما سيطر الشيوعيون عليه في العام 1948. كانت تعرف لدى عائلتها باسم مادلا في البداية، ثم مادلينكا، ولم تصبح «مادي، الأميركية تماما»، كما تقول، حتى الخمسينيات عندما حصلت على الجنسية الأميركية رسميا. وأخذت كنيتها، أولبرايت، من زوجها الصحفي الأميركي جوزيف أولبرايت. وجلبها إلى العمل السياسي وجندها في الحزب الديمقراطي الأميركي أستاذها في الجامعة، ومستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، زبيغنيو بريجنسكي. كانت مادلين شخصية متعددة الهويات. ويظهر ذلك في تحولات اسمها، وتغير دين عائلتها وتنقلها بين الأماكن، والقلق الموروث من النازيين والتشيك ثم الشيوعيين، وتعدد اللغات والجنسيات. ويبدو أن الشخصيات من هذا النوع تتماهى جيدا مع المؤسسة الأميركية وتكشف عن انتماء متطرف إليها. كان أستاذها، زبيغنيو بريجنسكي، نفسه بولنديا. وهنري كسينغر، أو هينز ألفريد كيسنغر، هو مهاجر ألماني. ومنظر الإمبراطورية، فرانسيس فوكوياما، ابن لوالدين يابانيين. وباراك أوباما ابن لكيني. ودونالد ترامب ابن لمهاجر ألماني، وهكذا». ويبدو أن هذا النوع من الناس يخلصون بشدة لمؤسسة تعطيهم الاستقرار وهوية قوية مرحبة، فيردون بولاء متطرف. وربما يتكون لديهم إيمان حقيقي غير مصطنع برفعة «القيم الأميركية»، بوصفها الإطار الذي أتاح لهم الارتقاء بلا حدود مع أنهم غرباء، وبآليات ديمقراطية حقيقية. ركزت المواد التي كتبت عن مادلين في الأيام الأخيرة على أنها «كسرت السقف الزجاجي»، فكانت أول وزيرة خارجية أنثى في تاريخ الولايات المتحدة. وحرصت «مادي» على تعيين النساء في الوظائف والأعمال التي يهيمن عليها الذكور، وعلمتهن أهمية التحدث بصوت عال ومقاطعة الآخرين لإسماع أصواتهن. وكانت بذلك مناضلة نسوية تقدمية. ويقول الإعلام الغربي أن معرفتها الواسعة بالشيوعية والفاشية جعلتها من أشد المؤيدين لحقوق الإنسان، وألد المعارضين للاستبداد على المسرح الدولي، حتى لو كان ذلك يعني التدخل العسكري. ويلخص هذا الوصف الأخير موقف السياسة الأميركية القائمة بوضوح على فكرة «مهمة الرجل الأبيض». يعتقد الأميركان، أو يقولون، أنهم يملكون الوصفة النهائية والمثالية لسعادة الإنسانية، وأن عليهم جلبها للناس –المقموعين، أو الجاهلين- حتى ولو بالقوة. المفارقة أن هذا الإيمان الحقيقي أو التظاهري بـ»المهمة» يعني للكثير من بقية العالم منتهى الكفر. في الممارسة، تتسبب أعمال أميركا من أجل «حرية الإنسانية» بآلام وعذابات لا توصف للإنسانية. وهي تستخدم قوتها المادية لفرض نظرتها العالمية الأحدية التي تصنع عشرات الملايين من المعذبين والقتلى والجائعين والمضطهدين، كما نعرف من العالم الذي تحكمه. وهذا طبع الأيديولوجيات الفوقية التي تعتقد باحتكار الحقيقة والصلاح. وقد تميزت مادلين أولبرايت بتعبيرها الصريح عن هذه العقيدة الأميركية-الغربية العنصرية والوحشية في حوارها الشهير مع الصحفية ليزلي ستال في برنامج «60 دقيقة». في ذلك الحوار يوم 12 أيار (مايو) 1996، سألتها ليزلي ستال في سياق الحديث عن العقوبات الأميركية ضد العراق في ذلك الوقت: «سمعنا أن نصف مليون طفل قد ماتوا. أعني، هذا عدد أطفال أكثر من الذين ماتوا في هيروشيما. هل الأمر يستحق الثمن»؟ وأجابت وزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت: «أعتقد أن هذا خيار صعب للغاية، ولكن الثمن -نعتقد أن الأمر يستحق». ولم تبذل أولبرايت أي محاولة لإنكار الرقم الذي قدمته ستال -وهو عرض تقريبي للتقدير الأولي لتقرير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة للعام 1995 بأن 567.000 طفل عراقي دون سن الخامسة ماتوا نتيجة العقوبات. ما هو الشيء الذي يستحق تحقيقه هذا الثمن من أرواح الأطفال؟ حرية العراقيين؟ تحقيق السلام والاستقرار العالميين؟ نعرف الآن أن ما تحقق كان غزو العراق وموت المزيد والمزيد من العراقيين الأطفال والبالغين، وتدمير البلد ومستقبل أهله. وتحقق العنف الطائفي، وانتشار الفكر المتطرف العنيف. وفتحت «حرية العراق» المزعومة منطقتنا على صراغ إقليمي سني-شيعي قاتل ونازع للاستقرار. ولم يذهب المستبدون. وذهب الخوف ببعض العرب إلى التحالف مع عدوهم التاريخي الاستعماري، الكيان الصهيوني، وضد أشقائهم والمبادئ الإنسانية، لحماية أنفسهم من المنافسة الإقليمية التي أججتها أميركا –ولمصلحة الكيان. هذا هو النموذج الذي جسدته مادلين أولبرايت وما عنته لنا، وهذا تبريرها لإزهاق ما لا يعد من الأرواح. المقال السابق للكاتب  للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنااضافة اعلان