الدولة أولا.. وأخيرا

إذا افترضنا أن الدول الاسكندنافية معيار للدول المتقدمة في الحوكمة والديمقراطية والمؤسساتية، فإنها كذلك لا تخلو من عيوب وشوائب هي ميدان الجدل للمعارضات فيها، معارضات تتلاشى حال وصولها الديمقراطي للسلطة وبدورها تتلقى النقد من سلطة الأمس التي تحولت إلى معارضة.

اضافة اعلان


هذا اسمه تداول السلطة، وفي تفاصيله الداخلية من جدل وانتقاد وطرح أفكار تكمن كل عملية التطور والتقدم.


في الأردن، لسنا حقيقة ضمن الديمقراطيات المكتملة، والدولة لا تعمل بكامل أهليتها المؤسسية لكنها موجودة بمؤسساتها، والأزمة الأساس في الأردن اقتصادية تتفرع عنها أزمات سياسية واجتماعية متعددة ومتفاوتة ومتسارعة في التورم المستمر، ولهذا أسبابه التي يمكن تشخيصها بعوامل إقليمية خارجية ( وهذه ضريبة قدرية لجغرافيا الأردن السياسية منذ تأسيسه)، وعوامل داخلية يتقاطع معها "الخارجي" كثيرا..


باختصار، في الأردن نحن امام دولة حقيقية لكن منهكة، وعلى كل تعبها إلا أن عقلها السياسي يطمح للإصلاح رغم كل التحديات "الخارجية والداخلية" فيها.
تلك التحديات المقذوفة تباعا واستمرارا من الخارج، صار لدى الأردن مهارة في خوضها بحكم الخبرة الطويلة في إقليم محشو بالأزمات دوما، لكن القلق " قلق حتى الآن لا أكثر" يأتي من تلك التحديات التي تتولد في داخل حدود الدولة الأردنية.
هنالك شرخ عمودي في مسألة الهوية، ولا يمكن إنكاره وإلا ما كان كل هذا الجدل الطويل في اجتماعات لجنة التحديث السياسي على تعريفات الهوية والانتهاء بمفهوم غامض وملتبس اسمه "الهوية الجامعة"! وطبعا فإن "الخارج" الذي يستهدف الأردن سيجد فرصة في تجذير الأزمات في موضوع الهوية على أمل "تفجيرها".


لقد وصلت الحساسية درجة من الهشاشة تجعل أي قصة لا ثقل حقيقي لها قادرة على إثارة العواصف والزوابع في وسائل التواصل الاجتماعي التي تعكس بشكل أو بآخر حديث الصالونات ونبض الشارع نفسه.


آخرها "ولن تكون الأخيرة يقينا"، تلك التي تتعلق بشابة قيل أنها مراسلة قناة رؤيا في غزة (!)، والمروي المتداول أنها تحدثت بإسفاف عن المستشفى الميداني العسكري الأردني في غزة.


في دولة "غير متعبة" فإن كل حديثها لن يغير من واقع وجود المستشفى بكوادره الأردنية في غزة، ولا كل ما تقوله أو يقوله غيرها يمكن أن يبخس من قيمة حضور "عسكري" أردني طبي في أكثر نقطة ملتهبة على الأرض.


بعيدا عن إسفاف تلك الفتاة التي لم أجد صراحة مقطعها المثير للجدل، لكنني وفي جولة البحث عنه تعثرت بكثير من "إنتاجها الفني" فلم أجد ما يلفت النظر. تلك مشكلة حقيقية..لأنها استطاعت في النهاية ان تلفت النظر بما لم تحلم به يوما في عالم الفضاء الافتراضي.


وبعيدا عن مسؤولية قناة رؤيا التي لم تتحملها حتى الآن، ولو في بيان الرأي على الأقل، فإن القلق الحقيقي كان في تلك العاصفة ذات الاتجاهات الشرقية – الغربية من تعليقات وآراء وجدل يعكس واقع "الهوية" التي نكتشف بصراحة وبساطة أنها ليست "جامعة". وهذا يجعلنا نفكر من جديد وبموضوعية ونطرح السؤال: من قال ان الهوية يجب أن تكون جامعة أساسا؟ وما الذي يجمعها أكثر من مفهوم الدولة؟


الفكرة الوحيدة الأكثر ثباتا ورسوخا هي "الدولة" التي تجمع الجميع تحت مبدأ "المواطنة". وبمظلة قوانين توضح سيادة الدولة وترفعها (عن وعلى).. عن الجدل وعلى الجميع، واستطرادا : هناك خيار واحد تحت مبدأ المواطنة: ان تكون أردنيا أولا تكون. وكلا الحالتين لهما حقوق وعليهما واجبات.


وهذا يعني – بما يعني والمقال لا يتسع شرحا أكثر- أن المرحلة باتت تتطلب إعادة نظر ومراجعة في استرجاع مفهوم الدولة لا بمعناها السلطوي، بل بمعناها المؤسساتي الصحي والسليم والمتعافي. وهذا بدوره يعني استراتيجية تشمل الرؤية السياسية والإعلامية على خطين متوازيين، مرفقة بخارطة طريق واضحة ومحددة وحاسمة.


مرة أخرى نكرر..
الدولة .. هي ألا يحدث ذلك كله.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا