"المدنيون" في السياق الاستعماري- الاستيطاني (2)

كما تظهر كل تعريفات "الاستعمار الاستيطاني"، فإنه يقوم، فكرة وممارسة، على إبادة وتهجير السكان الأصليين في المنطقة المستهدفة وتدمير مجتمعهم وإقامة مجتمع المستوطنين في مكانه. ولا يشترط هذا المشروع أن يكون السكان الأصليين عسكريين حتى يبرر إبادتهم الجماعية أو تطهيرهم عرقيًا -بل إنه يستهدف في الأساس مدنيين، أو مجتمعات بإمكانيات عسكرية متواضعة يستطيع أن يتغلب عليها حتى ينجح.

اضافة اعلان


يشير مفهوم "المستوطنين المدنيين" في سياق المشاريع الاستعمارية-الاستيطانية إلى الأفراد أو المجتمعات الذين يهاجرون إلى الأراضي التي تسكنها تاريخيًا، أو تطالب بها، مجموعة غالبًا ما تكون شعوبُا أصلية. وعادة ما يكون هؤلاء المستوطنون قادمين من خلفية/ خلقيات ثقافية أو عرقية أو وطنية مختلفة عن السكان الأصليين في المنطقة المستهدفة. وتتضمن المشاريع الاستعمارية-الاستيطانية الاستيلاء على الأرض، وتشريد السكان الأصليين، وفرض ثقافة المستوطنين ومؤسساتهم وطريقة حياتهم على الأراضي المستعمرة.‏


‏"المستوطنون المدنيون" مفهوم مراوغ. وهو يشير بأحد المعاني إلى الأفراد من غير السكان الأصليين الذين لا يخدمون في جيش ومؤسسات أمن الكيان الاستعماري كمهنة. لكنهم هم الذين يشكلون العمود الفقري للمشروع الاستعماري- الاستيطاني الذي يعمل الجيش على حمايته وضمان تشغيله. وسوف ينخرط هؤلاء المستوطنون، الذين يشكلون الغالبية العظمي من الكيان الاستعماري، في أنشطة الزراعة أو التجارة أو الأنشطة الاقتصادية الأخرى، في السياق الأساسي المفضي إلى تحويل المشهد الطبيعي والاقتصاد وكل عناصر الهوية المحلية لإحلال وإدامة المجتمع البديل.‏


‏وسوف يعتمد تعريف ماهية هؤلاء كـ"مدنيين" أو غير ذلك على المنظور. من وجهة نظر القوى الاستعمارية، يُنظر إلى هؤلاء المستوطنين على أنهم أشخاص عاديون، أو "مدنيون طبيعيون" يسعون وراء الفرصة في أماكن جديدة. لكن هؤلاء المستوطنين يمثلون، من منظور الشعوب الأصلية، تهديدًا كبيرًا وخطيرًا لأسلوب حياتهم وتقاليدهم وسيطرتهم على أراضي أجدادهم –وبقائهم الفيزيائي نفسه.‏


‏يؤثر وصول المستوطنين، بكل تصنيفاتهم وأوصافهم ومهامهم، واستقرارهم في أراضي السكان الأصليين، بأشكال عميقة ودائمة على مجتمعات هؤلاء السكان ومختلف جوانب وجودهم.‏ ويعطل وجود المستوطنين، في حد ذاته، النسيج الاجتماعي والثقافي القائم لمجتمعات السكان الأصليين، ودائمًا في اتجاه إلغائهم فيزيائيًا و/أو ثقافيًا وتاريخيًا. 


إن سرقة أراضي السكان الأصليين، وأجسادهم، ومعارفهم لتحويل الأرض إلى ممتلكات للمستوطنين، هي عمليات عنيفة لا تحدث فقط في اللحظة الأصلية لنزع الملكية، وإنما تعمل على أساس مستمر للقضاء على السكان الأصليين وتجريدهم من مزيد من ملكياتهم. وحتى لو تم تطبيع النظام الاستعماري الاستيطاني بحيث يصبح عمله غير مرئي للغالبية العظمى من المستوطنين الذين يستفيدون منه، فإن حيازة المستعِرين لا تكون بالنسبة للسكان الأصليين عادية وغير مميزة أو غير مسماة. ويتطلب العنف الذي ينطوي عليه صنع الفضاء الاستعماري الاستيطاني – من تطبيع واقع وتخيل حيازات المستوطنين على أراضي السكان الأصليين- استثمارًا من هؤلاء المستوطنين في جعل عملية نزع ملكية الشعوب الأصلية غير ملحوظة من خلال ممارستها بمجموعة من الأعمال "العادية".


حسب الرائد في نظرية الاستعمار الاستيطاني، روبرت وولف، "يأتي المستعمرون المستوطنون للبقاء". وعلى عكس الاستعمار الاستغلالي الكلاسيكي، فإن الاستعمار الاستيطاني "هيكل وليس حدَثًا. وفيه يكون القضاء على السكان الأصليين مبدأ منظمًا للمجتمع الاستعماري الاستيطاني وليس حدثًا يحدث لمرة واحدة فقط. إنه "عملية" يتم من خلالها القضاء على السكان الأصليين بدلاً من استغلالهم. وهو يتركز على السيطرة على الأرض بلا توقف.


كهيكل، يستقر الاستعمار الاستيطاني حساب السكان الأصليين، كهيكل أيضًا. ولذلك، من الطبيعي أن تكون الطريقة التي يمكن التفكير فيها لإنهاء هذا النوع من الاستعمار هي تفكيك الهيكل الاستعماري. ومهما كانت المحاولات اليائسة لتعريف "مدنيين" في هذا الهيكل، فإن كل عنصر فيه هو مشارك نشط وأساسي في عملية الاستعمار –بل إن هذا الهيكل مصمم لاستقرار المستوطنين/ المدنيين الذي يعني إلغاء السكان الأصليين/ المدنيين. وبذلك، لا يمكن أن يُشترط على مقاومة السكان الأصليين المستهدفين بالإلغاء ادخار "مدنيي" القوة الاستعمارية الذين يقيمون في ممتلكاتهم ويستغلون مزارعهم وفضاءهم ويصنون لأنفسهم هوية على حسابهم. إنك لا تستطيع تهديم هيكل لإنشاء/ إعادة إنشاء آخر من دون استهداف كل أسسه هذا الهيكل وتقويضه.


باختصار، تتخلل النزعة العسكرية للاستعمار الاستيطاني كل جانب مجتمعاته، من أصولها التي تبدأ بالغزو والاحتلال، إلى إرثها الدائم من العنف واللامساواة والإقصاء والاستهداف. وسوف يكون الاعتراف بهذه النزعة العسكرية البنيوية للمشروعات الاستعمارية الاستيطانية بالغ الأهمية لفهم تعقيدات هذه المشاريع وعلاقتها بالسكان الأصليين وطرق اشتباكهم معها.‏


ربما تنجو مجتمعات السكان الأصليين من جهد الإبادة والتطهير العرقي والإعدام الثقافية للمشاريع الاستعمارية الاستيطانية، لكنها تظل تعاني من تحديات كبيرة ودائمة، مثل الفقدان المستمر للأراضي، والموارد، والممارسات الثقافية والاستقلال السياسي. وسوف يواصل الاستعمار الاستيطاني تهميش السكان الأصليين، وإرهابهم وتدجينهم، حرمانهم من حقوقهم القانونية والإنسانية.‏ (يتبع)

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا