المرتكزات العقائدية للفكر الإبادي الصهيوني (4)

ينبغي الإشارة، في سياق تعقب الاتجاهات الاقصائية في اليهودية، إلى أن الإسلام يرى اليهودية في الأساس كدين إلهي توحيدي، يشترك في مصدره وجوهره مع الإسلام. لكن الإسلام يحيل إلى عبث بشري في التعاليم اليهودية الأصلية التي أوصى بها الله أنبياء اليهود.

اضافة اعلان


وبطريقة مماثلة تقريبا، يعترض الكثير من اليهود على التجلي الأخير لليهودية في شكل الصهيونية العقائدية. ويقول كثيرون منهم حاخامات مهمون، إن اختزال اليهودية في تكوين وممارسات ما تدعى «إسرائيل» يشوه كثيرا روح اليهودية، ويحولها إلى شرّ مطلق: ما هكذا هي اليهودية.


لكن المشكلة هي أن الكيان الصهيوني الاستعماري في فلسطين يعرض نفسه على أنه التحقق الدنيوي المثالي الأخير لليهودية وغايتها. إن وجود الكيان الاستعماري الاستيطاني في فلسطين بحد ذاته، بهيكله وأدواته وممارساته، هو الوفاء المطلق لليهودية. واقتضت الضرورة العملية أن يوظف منظرو الصهيونية أسوأ مكونات يمكن العثور عليها في التعاليم والتأويلات الحاخامية واختيارها للتلقين العقائدي لأفراد مؤسسة الاستعمار، كشرط لنجاح مشروعه الاستعمار.

 

وباعتبار المشاريع الاستعمارية-الاستيطانية إبادية بطبيعتها، فإن المطلوب هو تقديس الإبادة وتبريرها أخلاقيا وعقائديا، حتى يتمكن أفراد المشروع من ممارسة التطهير العرقي، والاستيلاء على الممتلكات، والتصفية الجسدية لأصحاب الأرض من دون تبكيت في الضمير.


يشبه هذا إلى حد ما، التلقين العقائدي لـ"داعش"، مثلا –مع فارق الغايات والمنطلقات. لم يكن فكر «داعش» يمثل التيار السائد في الإسلام. لقد كانت أساليبه العنيفة للغاية، بالنسبة لمعظم المسلمين، خطيئة التأويل. وقد اختار منظروه مرجعيات من الفقهاء والمفسرين الذين اتخذوا منحى إقصائيا في تعريفهم للدين، وبالتالي وضعوا خطوطا تحت مبررات العنف والدعوات إليها –بعضها حقيقي وأكثرها على أساس الاجتهاد الموجه في التأويل.


لكن الفارق أنه، في حين روج الغرب فكرة أن المسلمين كلهم «داعش» بحيث أصبح كل واحد منهم إرهابيا بالإمكان –وهم ليسوا كذلك- حتى يثبت العكس، فإن «العالم اليهودي» (في مقابل «العالم الإسلامي» الشاسع وشديد التنوع) كما يقدم نفسه بشكل رسمي هو «إسرائيل» بالتحديد. وفي الحقيقة، هذا هو الكيان الجيوسياسي المحسوس الذي يريد أن يجعل من نفسه «يهودية صافية» مركزة.

 

وبذلك، إذا كان هذا الكيان، بيمينه السياسي ويساره ووسطه، تجسيدا للاستعمار الاستيطاني الذي هو شر مطلق بطبيعته، فإن كل هؤلاء، بالتكوين، هم «اليهودية»، أكثر أو أقل، لكنهم مشروطون، وجوديا، باعتناق كل التشوهات والتعاليم والتفاسير الحاخامية التي تمجد العنف بالضبط، وتبرره وتوصي به.
وإذن، ليس العداء للكيان الصهيوني عداء لليهودية بقدر ما هو عداء لهذا التكوين الذي يعرض نفسه على أنه اليهودية متحققة جيوسياسيا. وهو الذي يجتهد في أن يساوي معاداة السامية، كاتجاه يعادي اليهودي كدين، بمعاداة الصهيونية كمعاداة لمشروع استعماري إقصائي. إنهم هم الذين يقولون أن اليهودية هي الصهيونية.


منذ نشأة الصهيونية حتى الحرب على غزة، قام المشروع كله على التلقين العقائدي المركز لكل الأفراد، على أساس «منهاج» ينتخب أسوأ في التعاليم التلمودية والتوراتية والحاخامية –من النوع الذي يجعل الاستعمار الاستيطاني ومتطلباته ليس أخلاقيا فحسب، وإنما ورعا دينيا –أو، ببساطة انطلاقا من روح المجتمع وثقافته وتعليمه، الدينية والعمانية على حد سواء، كواجب وطني.


بذلك، لا يمكن لأحد أن يلومنا على معاداة الكيان الصهيوني باعتبار أنها معاداة عنصرية أو طائفية أو دينية لليهودية. إن الذي نعاديه هو الاستخدام والتجلي. الذي نعاديه هو استدعاء نتنياهو لقصة «عماليق» للتحشيد على قتلنا. واستدعاء غالانت لوصف التلمود لنا بأننا حيوانات لتبرير قتلنا. واستزراع بقرات حمر في مزرعة أميركية لهدم أحد أهم رموز هويتنا الوطنية والقومية والروحية. وسواء كان التكوين الجيوسياسي المتحقق كاستعمار في فلسطين يجسد أصل العقيدة أو تأويلاتها، فإن هذه هي العقيدة التي نحن أمام اتخاذ موقف منها: إما مناصبته العداء ككيان عدائي عدواني؛ أو قبوله والتماهي مع كل ما يمثله ويفعله في العالم. إنه في النهاية نتنياهو، وبن غفير، وسموتريتش، وغالانت، وهاغاري، ولابيد، وغالنتس، وليبرمان. وقبلهم رابين وبيرس وشارون وأولميرت وباراك –فليحاول أحد التمييز بين متدين وعلماني، ويميني ووسطي ويساري بين هؤلاء!


إنهم أولاد نفس الفكرة، وحملة نفس النسخة من العقيدة، التي يستخرجون أسفارها حيثما احتاجوا تبرير ما لا يُبرر. ولم يكن الأمر أن غزة «كشفت» حقيقة الكيان. إن نكبة 1948 وتداعياتها الفظيعة هي حقيقة الكيان المتحققة والمعروضة مذّاك على قارعة الطريق. وسأعرض في الجزء التالي بعضَا من محتوى التلقين العقائدي الذي يجعل العدو ما هو عليه، كمسألة إيمان، وبلا ندم.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا