"جراثيم التعليم"

في منتصف خمسينيات القرن الماضي، جاء العالم بنجامين بلوم، ليقترح هرمه الشهير الذي عرف باسمه "هرم بلوم"، والذي يحدد فيه تصنيفا لمستويات الأهداف التعليمية، مقسما إياها إلى ثلاثة؛ إدراكي، سلوكي، وحركي نفسي. بينما قسم الإدراكي إلى ستة مستويات؛ التذكر، الفهم، التطبيق، التحليل، التركيب، وصولا إلى مستوى التقييم.

اضافة اعلان


في تصنيفه هذا، حدد بلوم أن المستوى الأقل هو "التذكر"، فيما يتربع "التقييم" على قمة الهرم بوصفه مستوى متقدما جدا، يكون فيه الطالب قادرا على استيعاب الأفكار وتكوينها، وطرحها والدفاع عنها، وبناء روابط بين تلك الأفكار وغيرها، ما يتيح له توسيع الرؤية لديه.


في مشهدنا التعليمي، تبدو العملية متوقفة عند المستوى الثاني، أو الثالث، في حدود ضيقة على أبعد تقدير، فنظامنا التعليمي أعلى من قيمة الحفظ بما هو مستوى تذكر، ولم يتوسع في مهارات التعليم والتعلم للتطبيق والتحليل والتركيب والتقييم. الحفظ في نظامنا التعليمي جاء معبرا عن "الفهم"، وهو بذلك يلوي عنق الحقائق، خصوصا أن استرجاع المعلومات هي آلية بدائية لا تدلل على هضم المعلومات، أو إقامة صلات بينها وبين أخرى، كما لا يفهم من ذلك أن الطالب قادر على الاستفادة من تلك المعلومات أو تطويرها.


إذا اتفقنا أن هذا الواقع هو ما يعيشه نظامنا التعليمي بالفعل، فعلينا أن نسأل عن الأسباب التي قادت، وتقود، إلى هذه المأساة.


في فنلندا، والتي يبلغ عدد سكانها حوالي 5.5 مليون نسمة، وتقف اليوم في صدارة دول العالم من حيث جودة التعليم، حدد الأب الروحي للتعليم هناك البروفيسور باسي سالبرغ أسبابا موضوعية لتردي أي نظام تعليمي، أسماها "جراثيم التعليم". وتمثلت نهضة فنلندا التعليمية في الأساس بالقضاء على تلك "الجراثيم" الست، والتي قال سالبرغ أنها تتمثل في: "كثافة المواد"، "كثرة الاختبارات"، "الدوام الطويل"، "الدراسة والواجبات المنزلية"، "المعرفة المعزولة"، و"الدروس الخصوصية".


لو فتشنا نظامنا التعليمي، لوجدنا هذه الجراثيم، وغيرها، متوفرة فيه. المواد كثيفة ومتخمة بالمعلومات التي تحتاج إلى الحفظ، لا الفهم، والاختبارات والامتحانات كثيرة إلى الدرجة التي باتت تسبب رعبا للطالب وأسرته، والدوام طويل جدا ولا يساعد الطالب على الراحة أو الاسترخاء وتعويض الإجهاد البدني أو الذهني، فيما هو مطالب أيضا بتنفيذ قائمة طويلة من الواجبات المنزلية شبه اليومية، وبسبب ضعف مدخلات التعليم، تضطر الأسر إلى الاستعانة بالدروس الخصوصية أو المدارس الخاصة، والتي ترهق ميزانياتها.


بالإضافة إلى كل ذلك، فهناك آفة خطيرة تفتك بكل نظامنا التعليمي، والتي يجد الطلبة أنفسهم أمامها غير قادرين على اختراق جدر المعرفة للنفاذ إلى داخلها، وهي "المعرفة المعزولة".


في كتب المنهاج الأردني، نجد كما هائلا من المعلومات التي يصعب ربط بعضها ببعض، كما لو أنها تأتي من أجل نفسها فقط، كما لا يمكن ربط كثير منها بالحياة اليومية. فضلا عن ذلك، فكثير من هذه المعلومات متخصصة جدا وبتفصيلات كثيرة، ولا تنفع إلا ذوي الاختصاص الضيق محل البحث.


هذه هي جراثيم نظامنا التعليمي، والتي ينبغي العمل على تطهيره منها. لكن الأمر لدينا يتعدى ذلك نحو تحديات أخرى، مثل سوء البنية التحتية للمدارس، وضعف أهلية كثير من المعلمين الذين درسوا المواد علمية أدبية، من غير أن يمتلكوا آليات التدريس نفسها.


هذه جملة من التحديات التي تهيمن على النظام التعليمي في الأردن، ولن نستطيع أن نطور من آليات التعليم ما لم نقف طويلا أمام تأثيراتها المدمرة، وأن نحاول استنباط الطرق المثلى للتخلص منها.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا