جَلُدُ الذات العربيّ

جَلدُ الذات مرضٌ من أخطر الأمراض النفسيّة التي يُمكنُ أن يصابَ به الإنسانُ والجماعات، فهو عنوانٌ على اليأسِ المُطبق، وانعدامِ الثقة بالنَّفسِ، والتَّعنيفِ الدائمِ لها، في غير وجهِ حقٍّ، وتحميلها المسؤوليةَ عما يجري في المحيط العائلي أو المجتمعي.اضافة اعلان
 وهو نوعٌ من أنواع المازوخية التي يصل بها الأمر إلى التلذُّذ بهذا الجلدِ والمسارعةِ إليه كما لو كان فيه الشفاء من كلّ داء.
ينتعشُ هذا الداء مجتمعياً في أوقات الهزائم المريرة، حيثُ تتحوَّلُ الإرادةُ الشعبيّة ضدَّ ذاتِها، ما دامت ليست بقادرةٍ على مواجهة خصمها المنتصر، سواء أكان قوةً خارجيّةً، كالمحتلِّ والمستعمر بأشكاله وأنواعه، أو داخلياً كالاستبدادِ واستشراء الفساد.
 وقد يتخفّى هذا المرضُ تحت مُسَميّاتٍ متعدّدةٍ أحدها "النقد الذاتي" الذي يأخذ شكلاً متطرّفاً في التأكيد على السَّلبيات، وفي ملاحقة الأمثلة التي تشير إلى انحطاط الجماعة أخلاقياً أو مهنيّاً أو حضاريّاً، أو كلها مجتمعةً. فهناك فرقٌ شاسعٌ بين مصطلح العنوان وبين "نقد الذات" أو "مراجعة النفس" التي تقومُ على تبيُّنٍ علميٍّ لمواطن الخلل، وتشخيص ملامحه وتبعاته، وبين الصراخ الشعبيّ الذي تختلط لديه الأسبابُ بالنتائج، والذي ينحاز نهائياً إلى اليأسِ المطبق من "أمة العرب" جمعاء.
وحقاً لقد وقعنا، ربما جميعنا، في فخِّ جَلد الذات، ونحنُ نحاول الاستيقاظَ من شوفينيّةِ أننا خيرُ الأمم على الأرض. فالنفخُ في "الأنا الجمعيّة" كان دوماً الوجهَ الآخر للإحساسِ بالهوان، حيثُ يتمُّ ترقيعُ "مفهوم الذات" الجمعيّة بإنجازات كاذبةٍ، أو مكاسبَ وهميّة، تجعلنا نتغنى بماضٍ عريق، ليس لدينا أيُّ يدٍ في حدوثه. وفي هذه المرحلة من جلد الذات الجمعيّة، يحدثُ أن يُستَغلَّ الهوانُ واليأسُ لغاياتٍ أيدولوجيّة وتبريره بأسبابٍ غيبيّة لها منطقُ المجاز وخديعته؛ من مثل القول إن من أسبابِ انحطاطنا البعدَ عن كريمِ الأخلاقِ، أو ارتفاعَ نسبة الطلاق، أو حركاتِ تحرر المرأة، أو البعد عن الدين... وغير ذلك مما بات يعرفه الشخص العادي.
واليوم، فإننا نشهد عواصف تعصفُ بوجداننا الفرديّ والجمعيّ، وبثقتنا بالنفسِ التي هي أساسُ أي تقدُّمٍ ونهوض، وهذه العواصف لا تتوقَّف عن البحثِ عن كلِّ ما يفتّتُ الهمة، ويتصدّى للأمل. وهذا لا يعني أننا ندعو إلى الصمتِ على ما يجري من فسادٍ أو استبداد، ولكنها دعوةٌ إلى تمييزِ النقدِ من الجَلد، والاحتفاظِ بقدرٍ من احترام الذات التي تتحرى وجهاً طيّباً وخيِّراً للجماعة، بما تنجزه هذه الجماعة هنا وهناك من مبادرات جميلة وبناءة، تجعلُ من الممكن أن نأملَ بغدٍ أفضل.
 فليسَ كلُّ الواقعِ مظلماً، وإن بدا كذلك، وليس كلُّ المجتمعِ في الحضيض، وإن رأيناه هناك. فالتزوُّد بِطاقةِ الأمل "فرضُ عين" لا "فرضَ كفاية"؛ وهي طاقةٌ تجعلنا نمدُّ أيديَنا وقلوبَنا وعقولَنا نحو الأسبابِ الحقيقيّة التي تبدأ من ذواتِ أنفسنا، حيثُ يبحثُ كلُّ فردٍ عن مهمّةٍ مجتمعيّة، تتعدّى الكلامَ السَّهلَ، إلى عملٍ عامٍّ مثمر. فأشكال الحراك لا يمكن اختصارُها واقتصارُها على الوقفات والإضرابات. وليس حراك نقابة المحامين الأخير إلا نموذجاً ممتازاً على الطريقِ الصحيحة الموصلة إلى الهدف. وهذا ما حدث.
لا ينبغي لنا أن نفقد الأمل!