جمهورية جنوب أفريقيا الشقيقة

في 84 صفحة و574 هامشا وبينة، تقدمت جمهورية جنوب أفريقيا بلائحة دعوى إلى محكمة العدل الدولية، تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب كما حدد في اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، وهي في غزة إبادة للشعب الفلسطيني أو جزء منه، بالقتل وإتلاف أسباب الحياة أو التهجير، وطالبت بعقد جلسة عاجلة واتخاذ قرار مستعجل لوقف الحرب وإغاثة الفلسطينيين، وقد سبق وأصدرت المحكمة قرارات مستعجلة في 11 قضية سابقة عرضت عليها. آخرها القضية التي سجلتها أوكرانيا ضد روسيا في الحرب الأخيرة حيث أنهت لروسيا بتعليق عمليتها العسكرية في أوكرانيا. 

اضافة اعلان


لائحة جنوب أفريقيا لائحة واثقة متكاملة رصينة، وشكلت وثيقة قانونية ذات مستوى رفيع، وأعتقد انها ستكون محور دراسة في الأوساط القانونية والقضائية الدولية لسنوات قادمة. 


اعتمدت اللائحة معيارا جديدا يعقد الاختصاص لمحكمة العدل الدولية بنظر الدعوى؛ «erga omnes partes» والذي اعتمدته المحكمة مؤخرا في قضية جامبيا ضد ميانمار في عام 2022 بخصوص مسلمي الروهينغيا، ويعني هذا المعيار حق الدول الأعضاء في الأمم المتحدة رفع دعاوى تتصل بجرائم الإبادة الجماعية، حتى وإن لم تكن طرفا مباشرا فيها، كما هو الحال بالنسبة لجنوب أفريقيا وحرب غزة. 


تشكل اللائحة سجلا قانونيا وسياسيا يوثق ممارسات الاحتلال الهمجي في فلسطين. وعلاوة على ذلك، فإن تقديم هذا اللائحة من جانب دولة ذات موثوقية عالمية في مكافحة الفصل العنصري، يضفي على الدعوى وزنا أخلاقيا معتبرا واحتراما دوليا.


ستبدأ جلسات المحاكمات الخميس القادم حيث ستحاول إسرائيل رد الدعوى ووقف استصدار قرار مستعجل، ومن المتوقع أن تقدم عدة دفوع منها؛ الدفاع عن النفس، علما  ان ذات المحكمة قررت في رأيها الصادر عام 2004 بشأن الجدار العازل، ان حق الدفاع عن النفس لا يكون لسلطة الاحتلال. وقد تثير أيضًا مسألة الدروع البشرية، وهذا بحث يطول، ولكن القانون الدولي الإنساني ومعاهدات جنيف تمنع استهداف المدنيين بحجة استهداف مسلحين بينهم. 


اللافت ان جنوب أفريقيا  قدمت هذه اللائحة  تتويجا لجهود حثيثة قامت بها لزجر إسرائيل عن عملياتها بالإبادة الجماعية في غزة، فمنذ 30 أكتوبر 2023، توالت تحركات جنوب أفريقيا الدبلوماسية والدولية، فمن إطلاق التحذيرات عن انتهاك إسرائيل للقانون الدولي، إلى تحذير وزير خارجيتها أمام الجمعية العامة من ارتكاب إبادة جماعية في غزة، مرورا بتنديد رئيس الدولة بأعمال إسرائيل ودعوته إلى محاسبتها، إلى تجميد العلاقات وتنبيه السفير الإسرائيلي، حتى وصلت إلى تقديم اللائحة أمام محكمة العدل الدولية بتاريخ 17-12 الماضي، وكأنها كانت تبني القضية، وتحضر لها بمهنية وأخلاقية عز مثيلها!


التوقعات عن نتيجة الدعوى في الأوساط القانونية متباينة، فبينما ترى الأغلبية ان المحكمة ستصدر قرارا مستعجلا بوقف الحرب، فإن البعض ليس مستبشرا برئيس المحكمة الحالي الأميركية جوان دونوجيو، ولكن في تصوري أن الدعوى فتحت على إسرائيل جبهة دولية مستعرة وان إسرائيل «مذعورة» من هذه الجبهة، وقد بدأت تعد العدة القانونية والدبلوماسية لمواجهتها بمساعدة رأس الحية أميركا! 


الموقف العربي معيب وخاصة ان معظم الدول العربية تستطيع أن تحذو حذو جنوب أفريقيا، وتعزز من دعواها، وتطلب إجراءات مستعجلة لوقف الحرب، ومن المهم الإشارة أن لائحة دعوى جنوب أفريقيا يسرت على أي دولة جديدة أن تقدم دعواها حيث يمكن تبني ذات اللائحة مع تعديلات بسيطة. الأردن هو الدولة العربية الوحيدة التي تحاول مواجهة إسرائيل دبلوماسيا على المستوى الدولي، وقد أعلن وزير الخارجية أيمن الصفدي أن الأردن يدعم الدعوة، وسيقدم مرافعة بذلك في أول جلساتها.


ثمة مدرستان سياسيتان تتحكمان بالمشهد السياسي العالمي، مدرسة سياسية نفعية قائمة على القوة والدسائس والمصالح التجارية، تزعمه بل كرسته أميركا وحلفاؤها في الغرب، وأنظمتنا متورطة في هذه المدرسة السياسية وتبعاتها، وثمة مدرسة سياسية قيمية قائمة على القيم والحق والمساواة والعدل والعدالة. المدرسة النفعية تحسبها بالقلم والورقة. أما مدرسة القيمية، فتحسبها بقراط الحرية وحق الشعوب بتقرير المصير. 


جنوب أفريقيا شقيقة، نعم شقيقة فرب شقيقة لك لم تلدها أمتك، بل شقيقة ولدتها لك دول حرة تقوم على تاريخ نضال طويل ومكلف من أجل الحرية والمساواة وتقرير المصير، وهذه الدول والشعوب تستصغر التضحيات من أجل مبادئها وحريتها؛ وأهل غزة نموذج لذلك. قولوا معي جنابكم شكرا جمهورية جنوب أفريقيا الشقيقة وشكرا غزة! 

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا 

ذات صلة
placeholder

4 تقييمات سياسية حساسة

07 كانون الثاني 2024
placeholder

ما بعد غزة

02 كانون الثاني 2024