حمية الدخان

رنّ جرس الباب. تجاهلته لأنني لا أنتظر أحداً. جاءني إشعار من واتساب، مسحته نحو اليمين من دون أن أقرأه، لأنني لا أترقبُ جواباً. أفتح التلفزيون، لكن هذا لا يعني أني أبحث عن نشرة أخبار خالية من الدماء، أو عن فيلم جديد للسيدة نيكول كيدمان قرأت أن الجمهور يترقبه فوق النار، بل لأني محايد أكثر من حكم متقاعد. استقرّ البحث العبثي على قناة رياضية تبث مباراة من كأس العالم 1986. هكذا لن أجهد رأسي لمعرفة من سيرفع الكأس، لا أتفاعل ولا أتوتر، كأني أحرُّك رماد الليلة السابقة.  

اضافة اعلان


أعرفُ أنك لا تصدّقين، فقد ذكّرتني بغمزة مكتملة بأني أجبتُ على مكالمتكِ قبل أن يكتمل خط الانتظار الأول، ورحتِ تقلّدين صوت الشاعر الذي لا يُقلَّدْ "انتظرها". وأعرف أني لا أستطيع أن أكون فظاً، لأخبركِ بأن اسمكِ ليس مدوّناً أصلاً على هاتفي، وبالطبع لا يمكنني أن أحفظ أرقام هاتفكِ، وأنا الذي إن نجحتُ في تذكّر تاريخ ميلادي، أخفقُ في تكراره. أجبتُ على المكالمة قبل أن يكتمل خطّ الانتظار الأول، بسبب خلل في إعدادات أصابعي، لا أكثر، ثم جاء صوتكِ، لا يمكنني إنكار أنه أدخل الهواء إلى رأسي، فاستجبتُ للقائكِ كما تُكسَرُ حمية الدخان.  


قلتُ لكِ أمام البحر الذي خلف زجاج المطعم، أني لا أنتظر طلوع الشمس، وحين تطلع لا يهمّني إن كانت شمس الجمعة أم الأحد. سألتني بغباء لإفساد استرسالي، بأن الفرق هو في موعد العمل، وأن حالة اللاانتظار التي "أدعيها" كما ادعيتِ، لا تصلح سوى ليومي الإجازة الأسبوعية، وتفاصحتِ بأني أثناء العمل لا بدّ أن أنتظر ساعة الانصرف. أجبتكِ بيأس أن توضيحك هذا يشبه تعليق طفل في الثامنة على أحداث فيلم، إذ يسأل أمّه حين يرى البطل مواجهًا عصابة بمفرده: أين أبناء عمّه؟! 


 إذاً أنا لا أنتظر، حتى هذا الموعد أمام البحر الذي يبدو أسود خلف زجاج المطعم، لا أترقب نهايته، ليس لأني مستمتع بالحوار معكِ، ولا لأني منشغل بتخيل لون آخر لعينيكِ أو بتفسير الوشم على كتفيكِ، بل لأن لا موعد لي وراءه، وسأجيبكِ كما تجيب الأمّ طفلها عن أبناء عمّ البطل: أنا لا أنتظر ساعة الانصراف من العمل، لأن لا حياة لي وراء الدوام الرسميّ، وهذا لا يعني أن أحبُّ العمل، وأنتظر بدء الدوام، بل لأني مثل المريض في المستشفى لا ينتظر وجبة الطعام، ولا يهمّه إذاً ماذا سيأكل.    


أخبرتكِ والبحر أصبح وراءنا، والزجاجُ أيضاً، أني لا أحبُّ العبارة الروائية المستهلكة بأن الانتظار عبودية، وبالتالي فإن الأحرار هم الذين لا يجلسون في محطات القطار، ولا يلبسون الساعات، ولا تتوتر أقدامهم. أنا لستُ حراً يا صديقتي، فلا خيار لي بتأخير الوقت أو تقديمه، وهذا لا يعني أيضاً أني مستسلم لعبارة "كل ما هو متوقع آت". أنا يا صديقتي لولا ذلك الخلل السخيف في إعدادات أصابعي، ما كنتُ التقيتكِ، وما عرفتُ أن هناك حياة وراء الزجاج والبحر الذي يبدو أسود.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا