صدمة القصف

في الحروب التقليدية، كان مفهوم جند المشاة يصنف كمصطلح مواز للموت نظراً لتشكيلهم صدر الجيش في وجه النصل، وفي مواجهة المشاة كانت القذائف تشكل سياط الجحيم المرسلة لإخضاعهم، وبالتالي فرض الإرادة على العدو ككل.اضافة اعلان
لذلك، في حرب تقليدية كالحرب العالمية الأولى، تشير الإحصاءات الى استخدام أكثر من مليار مقذوف من المدفعية في كل الجبهات، فهي حروب ارتكزت في جنونها على سياسة الأرض المحروقة في فرض السيطرة.
ففي شمال فرنسا وعلى بعد ما يقارب مائتي كم من العاصمة باريس، رمت القوات الألمانية في مطلع 1916 بثقلها من المشاة المدججين بما يقارب بألف وخمسمائة مدفع لمعركة كسر عظم مع فرنسا، وخلال تسع ساعات كانت المدفعية الألمانية قد دفعت بما يزيد على مليوني قذيفة في موقعة (فردان) الشهيرة، لم يكن هذا الرقم من القذائف سوى قص شريط البداية لواحدة من أعنف وأطول المعارك بالتاريخ التي استمرت لما يقارب السنة في صراع مرير قدمت فيه فرنسا ما يقدر بنصف مليون جندي، وخسر الحلفاء العدد ذاته خلال مائة وعشرين يوما عندما حاولوا تخفيف الضغط على الفرنسيين عبر افتعال معركة السوم الفاشلة، وتقدر الأرقام استخدام أكثر من خمسين مليون قذيفة مدفعية على امتداد هذه المعركة وحدها؛ أي ما يقارب خمسة بالمائة من النار الحربية التي استخدمت في الحرب العالمية الأولى.
خلال حرب الخنادق الدموية التي امتدت على مدار الحرب الكونية الأولى، تم إعدام ما يقارب الثلاثمائة جندي بريطاني بتهمة الجبن، فيما بعد تبين أن هؤلاء كانوا مجرد ضحايا لمرض نفسي عرف بـ(صدمة القصف)، فقد أدى تواصل خطوط النار من دون انقطاع الى ظهور أعراض مرضية تطورت من الرعاش الى الشلل وفقدان السمع والبصر، حالة نفسية هيمن فيها الخوف على كل مفاصل الجسد فتسببت بالعمى النفسي من دون أي سبب عضوي.
ببساطة تحت هذا الوابل من القصف المدفعي المرعب، هرب الجنود الى عقلهم الباطن الذي استخدم حيل الدفاع عن النفس لحمايتهم قبل أن ينهاروا أمام خوفهم، يقال إنّ إدراك الإنسان لجهله هو شكل من أشكال المعرفة، والإحاطة بأسرار النفس البشرية وفهمها يوافق وصف كوينسي: اكتشاف المشكلة ليس بأقل أهمية عن اكتشاف الحل، وأسوق هذه المقدمة للعودة لطريقة تشخيصنا للأحداث المحيطة بنا اليوم، فنحن معرضون يوميا لوابل من الأحزان في بيئة باتت تولد قصص الموت والدمار وانعدام الأمل بشكل آلي وصار نسخ ونشر أخبار الكآبة والدمار أسلوب حياة حتى بتنا نتلذذ بإيذاء ذاتنا أو نقل الأذى للآخرين في تذبذب مرضي بين المازوشية والسادية.
في هذا العالم وتحت هذا القصف المتواصل من نمط آخر ننزع لاستخدام ميكانزيم الدفاع النفسي بسبل مختلفة كي نقوى على مواجهة تسونامي التغييرات الكبرى التي داهمتنا من دون توقف أمام أخبار محاورها تتكرر حول ستة ملايين من سورية تشتتوا في حرب دموية وحروب طاحنة باليمن وفوضى في لبنان والعراق وليبيا والصومال ووباء عالمي وركود اقتصادي وأخبار لا تنقطع عن الفساد، كل ما سبق يدفع لنمط هستيري أو اضطرابات تحويلية حيث الألم عضوي ولكن المضمون نفسي.
هكذا تواجه أنفسنا معاركها اليومية في ظل هذا الكم من القصف المتواصل لمشاعرنا ولعقولنا، وهي مواجهة لا تختلف عما جرى في حرب الخنادق.
ففي (فردان) عندما قرر الألمان كسر فرنسا صبوا بيوم واحد مليونا قذيفة، واليوم عندما يتم مهاجمة الدولة تقصف مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مفاجئ بآلاف الهاشتاجات المجهزة بعناية وأخبار الكراهية الممولة ليشل المجتمع تحت صدمة القصف.