عصر التعلم المفتوح

موفق ملكاوي عشت في زمنين مختلفين تماما؛ الأول زمن المعرفة ذات المصادر النادرة أو المحدودة، والثاني الانفجار الرقمي، والمصادر المفتوحة والمتنوعة التي يمكن إيجادها بكل سهولة. هذان زمنان مختلفان كلية عن بعضهما بعضا، ففي الأول كان لا بد من البحث عن مصادر مكتوبة لإيجاد المعرفة المطلوبة، وهي غالبا ما كانت تتوفر في المكتبات العامة والتجارية والجامعية، وأحيانا لا يحالفنا الحظ بإيجاد المطلوب، خصوصا أن المكتبات العامة كانت محدودة جدا، وحتى اليوم ما تزال مجتمعاتنا تعاني من ندرة هذه المكتبات. كان التزود بالمعرفة محكوما باعتبارات عديدة، لا يتدخل فيها حجم التوق للمعرفة، بل خضوعها لتحديات إمكانية توفر المصادر المطلوبة، خصوصا حين نتحدث عن جغرافيا صغيرة مثل الأردن، والتي كانت الكتب والمجلات والدوريات، سواء المنتجة محليا أو المستوردة من الخارج، تخضع لمثل هذه الحسابات؛ حجم الجغرافيا، والكثافة السكانية، إضافة إلى محدودية الطباعة المحلية، فعمّان لم تكن من عواصم صناعة الكتاب كما كان الحال مع بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق. في نهاية الأمر، كانت معارفنا، خاضعة أيضا، لمدى قدرتنا على توفير مثل تلك المصادر، لذلك رأينا كثيرا من الاجتهادات التي حاولت التغلب على مثل هذه التحديات، فلجأ كثيرون إلى “تبادل” الكتب، سواء مع أصدقاء محليين أو من الخارج، لكن تلك العملية كانت تصطدم أيضا بالرقابة التي كانت تعمل على مدار الساعة من أجل “تقييم” جميع الكتب التي تدخل عبر الحدود، أو، بمعنى آخر، “تقنين” حصول المواطن على المعرفة، ومنع ما تراه غير ضروري له! في مثل هذه الأجواء، نشأت أجيال عديدة، تاقت للمعرفة على الدوام، إلا أن الظروف كانت صعبة للغاية، لذلك لم تستطع أن تنجز الكثير. لكننا لمسنا مدى القدرة في التحايل على الظروف المختلفة لتوفير الكتاب، وهو الذي مثّل الشكل الوحيد للمعرفة حينها، من خلال التبادل والاستعارة والشراء من الخارج، وصولا إلى التهريب عبر الحدود للكتب الممنوعة، ونسخها بواسطة التصوير الضوئي، وبالتالي توزيعها على أكبر عدد من المهتمين. هذا كان في زمن مضى، حين خضعنا لحقيقة ندرة المصادر، وكيفية انتقالها عبر الحدود، وأيضا حين كانت الحكومات قادرة على ممارسة الرقابة، وفرض سلطتها على ما يقرأه الناس. اليوم؛ تغير كل شيء، فمصادر المعرفة حول العالم موجودة في جيبك، وتستطيع أن تختار منها ما يناسب توجهاتك، إضافة إلى أن ممارسة الرقابة باتت ضربا من السخرية، فلن تستطيع أي سلطة حول العالم أن تنجح في هذا الأمر، حتى لو وظفت أرقى التكنولوجيات الحديثة، لأنها سوف تصطدم دائما بتكنولوجيا جديدة تتخطى حواجزها. نعيش اليوم انفجارا حقيقيا في أدوات وصول المعرفة، ما أفسح مجالا أكثر اتساعا للتعلم الذاتي، وهو الآلية التي سوف يخضع لها مستقبل التعليم ككل، فمع السرعة التي تتراكم فيها المعرفة وتتطور، ومع الرتم السريع الذي تسير به الحياة، وارتفاع القيمة المادية للوقت، فإنه من العبث أن يقضي الإنسان 16 عاما على الأقل لكي يحرز الشهادة الجامعية الأولى، مع أن هناك إمكانيات عديدة في أن يحرز المعرفة المتأتية له من هذه الشهادة بنصف المدة أو أقل. مصادر المعرفة المفتوحة، تتيح لنا اليوم أن نختصر الوقت والمال، وأن نكون أكثر انتقاء للمعرفة المراد تحصيلها، لا مثلما يحدث في المؤسسات العلمية التي تفرض مساقات ليست ذات صلة كمتطلبات لنيل الشهادة. هذا هو المسار الطبيعي لمستقبل التعليم والتعلم، والذي سوف نغادر معه الأطر الكلاسيكية، ونختصر من خلاله الوقت والجهد والكلف، لذلك علينا منذ اليوم أن نهيئ أنفسنا للتحول الذي يفرضه التقدم. لا نريد، كما هي العادة، أن نتفاجأ بكل التحولات من حولنا! المقال السابق للكاتب اضافة اعلان