عمى التغيير

يعرض العالمان سيمونز وليفين في تجربتهما التي وثقت بالفيديو العام (1998) قدرة الأشخاص على اكتشاف التغيرات المرئية غير المتوقعة في محيطنا، وفي تفاصيل التجربة البسيطة يتم إيقاف شخص في الشارع وسؤاله أن يدلك على موقع أو مبنى في الجوار، وأثناء إجابته يقاطعهما مرور أشخاص يحملون قطعة أثاث كبيرة من بينهما، وهنا يتم استبدال السائل بشخص آخر بشكل سريع وسلس ويتم رصد إدراك المستهدف في حال لاحظ هذا التغيير الذي حصل، وصلت التجارب الى رقم مدهش في توثيق مدى تركيزنا بما حولنا؛ حيث تؤكد الأرقام أن حوالي 50 % من الأشخاص الذين شاركوا بالتجربة لم يكتشفوا الاستبدال المفاجئ لشريك المحادثة المفتعلة.اضافة اعلان
في العام 2007 استعانت الواشنطن بوست بعازف الكمان الأميركي الشهير (جوشوا بيل) صاحب الموسيقى التصويرية لفيلم الكمان الأحمر الحائز على الأوسكار للمشاركة في تجربة اجتماعية حول مدى إدراك البشر لمحيطهم، العازف الذي بيعت تذكرة حفله قبل التجربة بأيام بقيمة مائة دولار يقف في محطة المترو لمدة خمس وأربعين دقيقة متواصلة مقدماً وصلة من أجمل المقطوعات المنتقاة لتنتهي حفلته العبثية بلا تصفيق ودون جمهور، لقد توقف فقط ستة أشخاص لثوان عابرة، فيما عبر أكثر من ألف شخص ساهمين بلا أي انتباه.
أدرك مؤسس علم النفس الأميركي وليام جيمس هذه الكارثة في تركيزنا وعدم ملاحظتنا لكم التغيرات حولنا مبكراً ووثقها في كتابه مبادئ علم النفس الذي وضعه في نهاية القرن التاسع عشر، وأكثر من استوعب ومارس تطبيق الملاحظة الذكية في حينه هم محررو الأفلام مطلع القرن العشرين الذين أيقنوا أن التغييرات في خلفيات المشاهد المصورة لم تكن تلاحظ من قبل مشاهدي الفيلم، هذه الفجوة البصرية التي تصيبنا تعرف في علم الأعصاب باسم “عمى التغيير”.
ولتعزيز الفكرة، لنعد النظر بآلية حركتنا اليومية ولنجرب مراجعة انطلاقنا من المنزل الى العمل مثلا أو اختيار أي نشاط تكراري نمارسه ولنحاول استدعاء تفاصيل الطريق أو حركتنا زمنياً، ستجد نفسك عاجزا أمام أسئلة كثيرة حول تفاصيل رحلتك على امتدادها، فالرحلة التي تقطعها يوميا مليئة بفجوات في الذاكرة التي كان وعيك يدار فيها مجازاً من خلال (الطيار الآلي).
ملاحظة ليست جديدة، ولكن اللافت حولها مؤخراً هو المدى الزمني الذي بتنا نركن فيه لتسليم ذاتنا الى تلك المساحات المجهولة في أدمغتنا التي تجعلنا نعبر المسافات ساهمين بلا أي انفعال ولا نستيقظ إلا لصب غضبنا أو لإغلاق مفاجئ في مسربنا أو غيرها من المنبهات وما إن نتجاوزها حتى نعود مسرعين الى غفوة الصحو التي باتت أسلوب حياتنا.
في الجانب الحسي، وفي محاولة تحليل ما يجري ذهنيا، نجد أنه يتم ضخ كتل هائلة من المعلومات بعد ثورة الشبكة والأجهزة الذكية، ولمحدودية قدرة استيعابنا يتلافى الدماغ الكثير مما تم عرضه ليتمكن من معالجة ما أمكن ضمن أولويات، يمكن تقييم الإنسان اليوم من خلال أولوياته تلك.
في الفصل الثالث والأخير من الكتاب الجميل “عبادة المشاعر” للكاتب (ميشيل لكرو) الذي يظهر مدى تحكم المشاعر في حياة الإنسان المعاصر، حيث الفردانية تمثل قمة تقديس الأنا الذي يميز عصرنا، إنه عصر التفاهة بحسب (إدوارد غاليانو): “حيث حفل الزفاف أهم من الحب، ومراسم الدفن أهم من الميت، والمعبد أهم من الله”.
وللخلاص علينا أن نعيش أحداث حياتنا من دون تقمص لأدوار لا تناسبنا، ولا أن نخسر أجمل لحظات حياتنا غارقين في (عمى التغيير) أثناء بحثنا عما هو أفضل، فـ”الأشياء تخاطبنا إذا منحناها وقتا للإنصات”.