عندما تضيع "الطاسة"

في كل مجلس، وعند كل زاوية يتحدث الناس عن الأوضاع المعيشية الصعبة، وعن ركود الوضع الاقتصادي لحدود باتت ملموسة من كل الاطراف، ولأن القدماء قالوا إن من لا يرى الشمس من الغربال أعمى، فإن هذا الواقع لم يعد ملموسا للاقتصاديين فقط وإنما لعامة الناس. أينما ذهبنا، يتحدث الجميع عن استثمارات ضائعة، وتكلس في القوة الشرائية، واغلاقات لمصانع، ومحال وشركات، وارتفاع في نسب البطالة، وزيادة مستويات التضخم، والسؤال الذي يطرحه الجميع إلى اين نحن نسير؟، وما الحل في ظل ما نشهده من ازمات تتعمق، وتململ مجتمعي يتوسع، وكلام بين الناس لم يعد همسا، وانما بات الهمس مسموعا، ويتحدث فيه الناس بصوت عال، وفي ثنايا كلامهم اسئلة مشروعة. لسنا بصدد اعادة تكرار كلام تحدثنا به سابقا، ولكن احيانا يكون في الاعادة افادة، وتبقى مسؤولية توجيه البوصلة لبواطن الخلل جزءا من الواجب الذي لا يجوز الهروب منه، فعند مشاهدة خلل ما يتوجب الاشارة اليه، والتحذير من تفاقمه، فما بالنا لو كان الخلل واضحا وضوح الشمس وقتها لا يجوز لنا ان نمارس ما يمارسه مسؤولون لدينا لا يريدون رؤية الشمس من الغربال. الحقيقة الثابتة ان الامور بحاجة لأكثر من تطمين، واكثر من كلام في مؤتمرات صحفية، واكثر من استعراض انجازات غير ملموسة، الامور بحاجة لإعادة النظر بكل سياستنا الاقتصادية التي مارسناها عبر سنين، وتقييم التجربة التي مررنا بها، والخروج من الصندوق الذي وضعنا انفسنا فيه، والتفكير خارجه، والبحث عن حلول منطقية وغير مكلفة، تعطي نتائج سريعة وملموسة، وهنا لا بد من التفكير في المقام الرئيس بالانفكاك من وصاية صندوق النقد الدولي علينا، والخروج من عباءة املاءاته التي اوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم. نحن اليوم بحاجة لأكثر من اقتصاديين لا يرون الا ما يراه الصندوق الدولي، ولا يتحدثون الا فيما يتحدث، بحاجة لاقتصاديين غير مرتبطين بسياسة الصندوق، ويرون حلولا خارج دائرته التي وُضعنا بها، وقتها يمكن ان نبدأ من جديد، ونضع نقاطنا على الحروف، ساعتها يمكن ان تدور عجلة الاقتصاد من جديد. وبالتزامن مع كل ذاك، نحن بحاجة للعناية بمواردنا الاقتصادية كالصناعة والتجارة والسياحة والنظر اليها بشكل مختلف بعيدا عن النظرة الضرائبية وزيادتها، والرسوم ورفعها، والفوترة ومتابعتها، فكل ذاك بات ثانويا في ظل ما نشهده من انكماش حاد في عجلة الاقتصاد الوطني. ولأن السياحة رافد للاقتصاد الوطني فهي بحاجة ايضا لأكثر من تصريحات ورقية، والتأسيس لأكثر من ذلك من خلال صيانة البنية التحتية لكل مرافقنا السياحية وجعلها جاذبة للسياح وغير منفرة، والاعتناء بكل ما يهم السائح من نظافة وترتيب والابتعاد عن فكر الإرضاء لهذه الجماعة او تلك، فالبترا مثلا للدولة الأردنية، وليست لأحد سواها، وعليها إلا وضع ضوابط صارمة لطريقة التعامل معها، والاعتناء بكل البنى التحتية، وزيادة التدفق السياحي اليها، وما ينطبق على البترا ينطبق على جرش وام قيس ووادي رم والبحر الميت، فكلما رفعنا من نسبة الاعتناء بتلك المناطق سنرى تدفقا اكثر للسياح، وبالتالي زيادة الدخل القومي. الحلول كثيرة ولكنها بحاجة لإرادة صلبة، والابتعاد عن التفكير الضيق والخروج من الصندوق الذي وضعنا انفسنا فيه، والتفكير بكل الاتجاهات الممكنة، وقتها سيكون بمقدورنا معالجة كل القضايا المجتمعية التي تقفز امامنا والذهاب لإصلاح اقتصادي وسياسي، ما سينعكس على اصلاح مجتمعي، وهذا الاصلاح (المجتمعي) لا يمكن ان يحصل إلا عندما يشعر الناس بطمأنينة وراحة دون خوف او قلق على وضعهم المالي او دينارهم او قوت اطفالهم. "طاسة" الحلول ليست ضائعة، ولكننا اذا واصلنا طريقة تعاملنا مع القضايا الضاغطة بنفس الطريقة التي نتعامل بها حاليا، فإن "الطاسة" ستبقى ضائعة ولن يكون بمقدورنا الوصول اليها او معالجة ما نمر به من أزمات.اضافة اعلان