محامي الشيطان

لطالما تصدرت القصة الشعبية الألمانية للدكتور فاوست وهو الكيميائي الغامض وعالم اللاهوت من جامعة هايدلبرغ في القرن الخامس عشر فكرة عقد صفقة مع الشيطان، تلك الحكاية التي أعاد حياكتها الكبير غوته ضمن سياق الأسطورة الأزلية المبنية على تبادل المنفعة المؤسسة على شغف الإنسان بحيازة السر الكبير والمتمثل بالمعرفة ويمثلها بالرواية فضول الدكتور فاوستوس مقابل تنازله عن روحه في النهاية لصالح الشيطان. معركة يمكن أن نستنبط منها تشريحا لسيكولوجية جماهير البحث عن المعلومة ونشرها أنه الجنون الأزلي بادعاء المعرفة وحيازتها. وعلى هذا الوهم بادعاء الوصول لجوهر الحياة ينصب الشر سوقه لجماهير العبث.اضافة اعلان
وفكرة خدمة الشيطان ليست خيالية وإنما هي مهنة حقيقية ابتدعتها الكنيسة الكاثوليكية بمسمى محامي الشيطان؛ حيث يتلخص دور المحامي في هذه الحالة بالبحث عن الثغرات والأخطاء في سياق القوانين التي ستصدر لمعالجتها قبل إقرارها، وهو عمل ذكي يقوم على التشكيك والجدل عندما يتعلق الأمر كذلك بمجادلة الشك مع مرشح لقديس، ولكنه كمفهوم أخذ سياقا آخر عندما تم طرح الدفاع عن الشر ضمن حالة وعي وإدراك مطلق للدور الذي تقوم به وتنفذه بعد يقينك بارتكاب المجرم لجريمته واستمرارك بالدفاع عنه، تماما كما في رواية نيدمان التي جسدها العبقري آل باتشينو، ونجد هنا أن مفهوم المحامي يشمل الجمهور كله بما فيه ما يعرف بالرأي العام حيث يبرز سؤال الصراع العميق هل مهمة المحامي هي البحث عن الحقيقة؟
يلتقط لين مورلي السؤال في محاولة لإعادة العربة الى مسارها عبر تقديم وجبات دسمة من المعرفة القانونية لجيل من المحامين حول العالم في كتابه محامي الشيطان، الجواب بحسب الكاتب (لا) إنها مهمة القاضي، فالقضاة كما يقول يركزون جهودهم في محاولة الوصول للحقيقة بينما على المحامين التركيز على فحص الأدلة واختبار قوتها.
إذن دور المحامي إبطال الحجة والنجاح بذلك يعني سقوط التهمة، بمعنى أنه تم إبطال القضية وبالتالي الاحتفال بخروج المتهم بدون الوصول بالضرورة للحقيقة، من جديد لم يكترث أحد بالحقيقة، وهذا ما يلخص دور كثير من المتصدرين لإثارة قضايا الرأي العام على التواصل الاجتماعي، فهم مجرد أذرع لأجندات لا تعنيها الحقيقة.
اليوم لا تشغلنا قضايانا الحقيقية بل تشغلنا قضايا الأشخاص الأكثر ضجيجاً، فوجود فئة تحكم الرأي العام أو صوتها عال لا يعني أنهم أغلبية، وبما أن الفيصل في تصنيف أولوية القضايا ساحات التواصل الاجتماعي فيمكن ببساطة أن تكون أولوياتنا مجرد أولويات لمجموعة منظمة وممولة ومعبأة بمحتوى يدار بشكل جيد ولا يتعدى دور الرأي العام فيها الا النسخ واللصق لأفكار معلبة، وهو دور محامي الشيطان سواء بعلم الجمهور أو بدون إدراكه.
وبحسب رصد واقعنا، نجد أن القضايا التي تتصدر المشهد الأردني في كثير منها أولويات لجهات عابرة للحدود ويقوم أساسها على محور السؤال الإيحائي، وهو أخطر ما يواجهه القضاة بصفتهم حماة الحقيقة، إنه ببساطة السؤال الذي يضع الجواب الذي يريده السائل في فمك، بمعنى آخر أن ينطق لسان الشعوب بما يريده الشيطان.
يرى كوبرنيكوس أن لا جدوى تذكر من البحث عن الأخطاء؛ إذ إن من سمات العقل عديم الحياة أن يفضل دور الناقد الذي يوبخ على دور الشاعر الذي يخلق. بتجرد ليس المطلوب إيجاد أجوبة جديدة لمشكلات قديمة فليس لدينا ترف الوقت لجدليات العبث، وإنما نحن مطالبون إزاء المهام المستجدة التي تواجهنا، بتغيير طريقة طرح الأسئلة بالذات، هكذا لخص غارودي رؤيته في كتاب البديل.