محاولة لتفسير الانهيار العربي العام

يمكن الادعاء أن وضع ما نسميه، أو ما يُسمى بالأمة العربية، في الحضيض الآن وأنه ربما يكون الأسوأ – لأمّة – في هذا العالم، بعد أن حققت بقية الأمم في الغرب وفي مجمل الشرق أهدافها التاريخية في الوحدة أو الاتحاد والانبعاث.

اضافة اعلان


إن ما نسميه بالأمة العربية أو ما يسمى بهذا الاسم ليست موجودة في الواقع، فنحن لسنا أمة واحدة في كيان واحد، بل أمة افتراضية (Virtual) وشعوب عربية الثقافة في أقطار شتى، لكل منها سياسته وعلاقاته الإقليمية والدولية الخاصة التي قد لا تلتقي مع ما نسميه بالمصلحة العربية العليا للأمة، وإن كان الغرب والشرق ينظران إلينا أو يتحدثان عنا كأمة واحدة (كعرب) ولكنهما يتعاملان مع كل قطر منها على حدة.


أما الدليل عليه فإن كلاً منا يشتم أو يسب (أمته) العربية أو العرب، ويحملهما المسؤولية عن هذا الوضع، دون أن يخشى ردة فعل الأمة أو العرب، وإلا فإنه سرعان ما يحاسب لو كان السب أو الشتم موجهاً لقطر «عربي». إن كلاً منا يعمم ليسلم وينجو.


بعد الثورة العربية الكبرى (1916) التي قادها الشريف حسين بن علي وجملة الشباب العرب المتخرجين في أرقى الجامعات العثمانية والأوروبية، وبخاصة الفرنسية الذين كانوا متحمسين لليوم القريب الذي يشهدون فيه استقلالها ووحدتها عن الإمبراطورية العثمانية المريضة والعنصرية (بالتتريك) وخيانة الحلفاء لها، وقعت بلادهم تحت الاستعمار البريطاني والفرنسي، فيا للحسرة التي ذاقوها، ويا للمرارة التي تجرّعوها!!!


في أثناء فترة الاستعمار – على الرّغم من أي شيء – بدأت بذور عملية ديمقراطية وإدارية عامة في النمو وبخاصة في البلدان الملكية كمصر والعراق وليبيا، تواصلت وقويت بعيد الاستقلال على يد هذه النخبة الكريمة من الثوار المؤمنة بالديمقراطية التي عايشتها في أوروبا في أثناء الدراسة هناك. لكن الجيل الثاني في الجناح العسكري لم يمهلهم ولم يمهلها حتى انقلب عليهما متهماً آباءه الذين ثاروا وشاخوا بإحدى تهمٍ ثلاث أو بها كلها وهي: الرجعية، أو العمالة، أو الخيانة، مع أنها قلما كانت تنطبق على أي واحد منهم.


وهكذا تم وأد الديمقراطية (الرسول والرسالة) في مهدها وحل حكم العسكر محلهما، وقد جعلتنا رعاية (الأبناء) الذين قاموا بالانقلاب- ولا أقول إعلامهم فقط– نصدق التهم الموجهة ضد الآباء، ونؤيد الانقلاب عليهم معتقدين أن طريقه الأقصر (والأخطر) أفضل من طريق الديمقراطية الطويل - إلى تحقيق أهداف الأمة وبخاصة إزالة إسرائيل.


ولكن الحقيقة المرة أن العسكر تخلوا بالانقلاب عن دورهم الأول والأخير في حماية الوطن، إلى الاشتغال في الحكم والسياسة، ففشلوا في الأمرين كما تجلى في هزيمة (1967) النكراء، التي نعاني من آثارها المدمرة حتى الساعة. إنني أدعي أن العامل أو السبب الأول لانهيار (الأمة) هو الانقلابات العسكرية، وإن كان بعضنا لا يزال يبكي على بعض رموزها أو بواقيها كما هو الحال في كل أصولية.


كان الجامع المشترك أو الموحد للمشاعر والمواقف للشعوب/ الأقطار العربية بعد الاستقلال هو قضية فلسطين، التي استغل العسكر هزيمة جيل الثورة العربية الحاكم بها (1948)، للقيام بانقلاباتهم على نظمهم الحاكمة: «الرجعية، أو العميلة، أو الخائنة».

 

كانت قضية فلسطين تشكل للجميع وحدة الضرر أو الخطر (المشترك). وبكلمات أخرى كانت قضية فلسطين في مرحلة الذهاب (1917 – 1967) هي الموّحِد والمقياس والبوصلة. لكن الأمر انقلب إلى العكس بعد هزيمة عام (1967) وما تلاها من أحداث، فقد تجزأت وحدة الضرر أو الخطر (المشترك) إلى ثنائية أو ثلاثية الضرر أو الخطر: إيران وإسرائيل وتركيا، بمعنى أن بعض العرب صار يرى أن إيران هي الخطر الأول والأكبر، أو تركيا هي الخطر، فيما بقيت القلة غير الفاعلة من الناس تركز على الخطر الإسرائيلي، وبعكس ما كانت تراه شعوبهم التي ظلت تعتبر إسرائيل الخطر الأول والأكبر. وهكذا تفرق القوم أيدي سبأ.


وزاد الوضع العربي سوءاً انقسام الشعوب نفسها على نفسها بعد الثورة الإيرانية الإسلاموية الشيعية والحرب الدامية بينها وبين العراق وغزو أميركا له واحتلاله، وامتداد نفوذها على إثره إلى أقطار عربية بل وتحالفها معها ضد عرب آخرين، واشتعال الحروب الأهلية الشيعية السنية منها التي تخللها الإرهاب. وقد بلغ الشقاق بين الأقطار والأحزاب والجماعات والأفراد العرب أوجه. وما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي دليل عليه.


ونتيجة لذلك تراجع بل تدهور الالتزام بقضية فلسطين إلى درجة التعامل وربما التحالف مع إسرائيل سراً وعلناً للمحافظة على البقاء من الخطر الآخر.


قضية فلسطين كانت الخاسر الأكبر من تفتيت وحدة الضرر أو الخطر وتلاشي قوة البلدان العربية بالحروب الأهلية الدائرة فيها وبالتحالفات العكسية التي تقيمها، تليهما قضية الوحدة العربية. لا يوجد في الأفق الآن ولا في المستقبل المنظور دولة عربية واحدة «قاعدة» مستقلة وقادرة وراغبة في مواجهة إسرائيل.


لم يتعلم العرب من تاريخهم ولا من تاريخ غيرهم فكرروهما. يبدو أن التعلم من التاريخ ليس مجانياً. يجب أن يدفع كل من الشعب والفرد كلفته من كيسه أو من دمه ليتعلم.


نأمل أن تنتهي هذه الفترة الخانقة بتحول عربي نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان فهي الطريق إلى الوحدة أو الاتحاد وكما كان الأمر عند غيرهم الذين مروا في ظروف وأحوال أسوأ ولكنهم نهضوا بعد ذلك.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا