مع هكذا أصدقاء

يقول المؤرخ الأميركي الفلسطيني رشيد الخالدي: تم زرع إسرائيل في المنطقة  لهدفين إستراتيجيين أساسيين، الأول حماية قناة السويس باعتبارها طريق التجارة بين الهند وبريطانيا والغرب عموما، وأيضاً لضمان وصول خط بري بين منابع النفط والبحر الأبيض المتوسط على ميناء حيفا، تعلم العقل البريطاني "أسس الاستعمار وأساليبه" من التجربة الاستعمارية للتاج البريطاني في إيرلندا التي دامت أكثر من 850 عاماً تقريبا، حيث كانت إيرلندا مختبرا لأساليب الاستعمار والقمع التي مارستها بريطانيا والغرب في كافة مستعمراتها ونقلتها بريطانيا لفلسطين، فإن بلفور إياه في عهد مشروع استعمار ايرلندا كان يسمى عند الإيرلنديين "بلفور الدموي"؛ حيث كان مسؤولا عن ادارة إيرلندا تحت الاستيطان البريطاني سائرا على خطى خاله لورد ساليسبري عضو حزب اليمين المتشدد، الذي عرف بكونه أشهر رئيس وزراء بريطاني متشدد في دعم الاحتلال البريطاني الإيرلندي.

اضافة اعلان


قام المستعمر البريطاني بنقل مجموعات من الضباط البريطانيين من إيرلندا إلى فلسطين لـ "مساعدة" المشروع الصهيوني حيث لقنهم أساليب الاستعمار والقمع، فقد صرح قادة العصابات الصهيونية – الذين اصبحوا قادة الجيش لاحقا- وعلى رأسهم موشيه ديان، بأن الضباط البريطانيين علموهم كل شيء كانوا يعلمونه، بما في ذلك خدعة وحدة التقمص المعروفة بالمستعربين؛ حيث كان بطشهم يأتي ككمين متنكر على صورة الضحية، وهذه خدعة تميز الجيش البريطاني في تطبيقها على سكان إيرلندا. ولا ننسى الكم الهائل من الأسلحة والطائرات التي تركتها بريطانيا للعصابات الصهيونية والتي كانت العامل الحاسم في المذابح الدامية التي ارتكبتها تلك العصابات الصهيونية في فلسطين ما قبل إعلان دولة إسرائيل وفي حرب إعلانها.


الشاهد في الحديث هو أن فكرة إسرائيل فكرة استعمارية بحتة وهي نتاج حالة عقلية استعمارية سادت العالم ومارستها دول أوروبا على بعضها وفي باقي القارات كآسيا وأفريقيا، حيث أبدع الأوروبيون فيها، وفي أفريقيا بالذات بطشا وعبودية واستغلالا، وشحذوا سيف الفكر الدموي ونقلوا كامل التجربة إلى إسرائيل، تصوروا أن إيطاليا كانت تقول إن لها الحق في استعمار ليبيا لأن أجدادهم الرومان حكموا ليبيا قبل آلاف السنين، تبدو لي هذه العبارة مألوفة جدا. 


لم يبق من المشروع الاستعماري الأبيض إلا الاستعمار الصهيوني لفلسطين وبمساعدة الدول الأوروبية وبسبب عداء أوروبا لليهود ولا سامية الرجل الأبيض الأوروبي ورغبته بالتخلص من اليهود، استكملت الدول الأوروبية دعم مشروع الاستعمار الصهيوني في فلسطين، ولأمام ضعف الدول العربية وتبعيتها تم الاعتراف بإسرائيل كدولة مستقلة ذات سيادة وانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية من الدعوة إلى دولة ديمقراطية واحدة على كل أرض فلسطين إلى الاعتراف  بإسرائيل وحقها في الوجود! بانتظار الاعتراف بدولة فلسطينية مؤسسة على حوالي 20 ٪  من أرض فلسطين التاريخية أي حوالي ستة آلاف كيلو متر مربع! وعلى عكس ما روجت له إسرائيل؛ قبل العرب والفلسطينيون جميع مبادرات السلام الأميركية والأوروبية، ولكن ما يسود في العقل السياسي الإسرائيلي هو فقط مشروع استعماري استيطاني يستهدف الأرض، لإقامة إسرائيل دولة يهودية نقية العرق من النيل إلى الفرات!


بغض النظر عن تقييم حرب غزة ونتائجها، إلا أن هذه الحرب أعادت مفهوم الصراع الفلسطيني العربي الإسرائيلي إلى كونه صراع شعب في مواجهة مشروع استعماري يهدف إلى اجتثاثه وتهجيره خارج أرضه، ورسخت الحرب فكرة أن هذا الصراع هو صراع وجود وليس صراع حدود، وأمام الإعلان الصريح لجناح نتنياهو اليميني الديني الصهيوني المتطرف برفض إقامة دولة فلسطينية، فإن الفلسطيني لم يعد له شريك للسلام، وإن محاولة أميركا للحديث عن حل الدولتين ليس سوى تكتيك انتخابي داخلي يعلم بايدن أنه غير قادر على تحقيقه.


موقف إسرائيل المتشدد والقاضي بتهجير وطمس هوية الشعب الفلسطيني والحيلولة دون حقه في تقرير المصير ليس بمستجد، بل هو تيار مستمر بدأ من هرتزل وجاوبتنسكي عبورا إلى بن غوريون وبيغن وشامير ليصل إلى شارون ويكمل سيرته في نتنياهو وبن غفير. فلن تؤثر الإطاحة بنتنياهو على هذا التيار السائد المتشدد والمستمر في العقل السياسي الصهيوني، هذا العقل اليميني النازي ظهر ما قبل غزة، وللأسف فإن أوروبا التنويرية تسانده في مواجهة النضال الفلسطيني، ولكن الاحتلال زائل؛ لأن الواقع التاريخيّ يثبت أن لا استعمار يدوم مدى الحياة، وأعتقد أن فرصة أصدقاء إسرائيل تكاد تنفد لإنقاذها، ولهذا نقول إن مع هكذا أصدقاء فإن إسرائيل لا تحتاج أعداء! الظاهر أن العقل الاستعماري الأوروبي لم يبرأ من نفسه، وأن الطبع غلب التطبع جنابك.

 

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا