موال عراقي وشاي نزار

نادر رنتيسي- في عام 1991، خرج كاظم الساهر من العراق. كانت حدود البلاد وأجواؤها مغلقة بأمر أممي وتنفيذ عربي وإسلامي، لم يكن سوى منفذ طريبيل مع الأردن، هناك قبل أن يختم الجنديُّ الأردنيُّ جواز الساهر قال له: “نحن نحبكم أكثر مما تحبون أنفسكم”. استقرّ عامين في عمّان، كان برفقته الشاعر كريم العراقيّ. طلب كاظم من كريم موّالاً عن الغربة التي ستطول، فكتب بالعراقية موالاً أطول من شَعر امرأة في بادية السماوة. كان للساهر حفل في قصر الثقافة في عمّان، وهو أول حفل خارجي له بعد انقشاع عاصفة الصحراء. لم يخبر كريماً أنه أنجز تلحين الموال. أجرى بروفات منفردة مع العازف قصيّ عبد الجبّار، وفي الحفل وبعد وصلة من أغانيه الشعبية الجديدة، سكتت كل الآلات الكهربائية والوترية والإيقاعية، ليبدأ قصيّ بعزف أنيني على الكمان الكهربائي، ثم صوت كاظم ينادي أهله على بُعد نقطة حدودية: “عذاب فراقكم جنّة المنيّة”، وفي الترجمة الفورية كان يقول، “عذاب فراقكم كأنّه الموت”. إحدى عشرة دقيقة من عذابات الكمان، وفي كلّ مقطع يتألم فيه صوت الساهر يصرخ الجمهور “كاظم، كاظم”، وفي المقطع الأكثر تأثيراً، يصف كريم بيته أو بيت الساهر أو أيّ عراقي نجا من حرب إيران أو العدوان الثلاثينيّ. هناك حيث الأهل يفطرون القيمر، ويضعون صورة الابن الغائب على الحائط، وفي الحديقة ورود لم يتم تحديدها، يسألهم عن زاويته في البيت، والأغاني التي كانت تدق على جدرانه من محمد القبانجي إلى ناظم الغزالي وما بينهما في المقهى القديم مع شاي أبو الهيل من مقامات وعتابات وأبوذيات، حتى يبلغ حضن دجلة، حيث الزوارق تطوف لتجلب السمك إلى نيران الشواطئ.. وعندما يستوي “السمك المسكوف” يكون صوت كاظم قد اكتمل ألمه وفي هتاف الجمهور بكاء لم يكتمل. لم يسجّل كاظم الموّال في الاستديو. كان لديه ألبوم بعنوان “لا تحتج” سجّله في مكتبه ببغداد وكان توزيعه محلياً مثل البلح العراقي الذي كان ممنوعاً من التصدير، لكنه في عمّان، أنجز عام 1992 أول خرق في المقاطعة العربية للعراق، بأن تعاون مع شركة خليجية لإنتاج ألبوماته، فأعاد تقديم الألبوم باسم جديد، وضمّ “الموال” كما هو في نسخته بحفله العمّاني. لاحقاً سيغني الموال في بيروت وبرلين وقرطاج وفاس، وسيقطع شبه البكاء غناءه، لكنه أبداً لن يصل إلى كامل الألم.. اجتهدت في تفسير لذلك، بأنه لا يمكن لرجل أن يبكي أباه مرّتين. في منتصف التسعينيات، كان كاظم يبحث عن طريقة للوصول إلى الشاعر السوري نزار قبّاني، ليتم الإجراءات القانونية لغناء قصيدة “اختاري”. كان الشاعر الشاميّ في منفاه اللندني الاختياري يجهل الساهر تماماً، فطلب منه إرسال “كاسيت” يتضمن أهمّ أعماله، فأرسل إليه شريطاً ليس فيه من الغناء سوى إحدى عشرة دقيقة، كانت هي الموّال. استمع إليه نزار، ثمّ دخل إلى المطبخ، وأعدّ شاي أبو الهيل، له ولخيال بلقيس أمامه، بشَعرها الذي كان يغطي مآذن وقباب الأعظمية. يقول الشاعر إنه ذهب إلى المتاجر الإنجليزية بحثاً عن سمك عراقي، لكنه يتعجب كيف أن الإنجليز الذي استعمرونا وسرقونا غفلوا عن سرقة سمك المسكوف! الآن أستمع إلى كلّ أغاني كاظم، من “شجرة الزيتون” و”عابر سبيل” إلى أن ترتخي حبال صوته الموصليّ، إلا هذا الموال، أتجنبه على يوتيوب، وفي الأغاني المحفوظة في سيارتي، فلا قدرة لي على بكاء أبي مرة ثانية. المقال السابق للكاتب بين فيلم وفيلم..اضافة اعلان