أطروحة الدولة العلمانية

لم تكن الدولة العلمانية يوماً ضد الدين، كما تعتقد أطياف تيار الإسلام السياسي وتحاول أن تشيع ذلك بين الناس. فالعلمانية لا تعني فصل الدين عن الدولة، كما تقول به الحركات والأحزاب التي تنتمي لتيار الإسلام السياسي في العالم العربي، وهو ما أدى إلى انفصام حاد حول أطروحة الدولة العلمانية بين الحركات الإسلامية والفكر الإسلامي من جهة، والحركات القومية والفكر القومي من جهة أخرى. والحقيقة أن الدولة العلمانية لا تفصل بين الدولة والدين، وإنما تفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية داخل الدولة.اضافة اعلان
والدولة العلمانية الحديثة هي دولة مدنية، نظام الحكم والسلطة السياسية فيها لا يستمدان شرعيتهما من معتقد ديني أو من رجال الدين، وإنما من الدستور الذي توافق عليه شعبها. وهي لذلك تسمح بتعدد الآراء واختلافها في إدارة المجتمع وشؤون الدولة، وتكون حرية الرأي فيها مصانة من العسف والاضطهاد. وما الديمقراطية التي تتيح للناس المشاركة في إدارة مجتمعهم، بالتمثيل والإنابة بواسطة من ينتخبونهم عبر صناديق الاقتراع، إلا الشورى التي دعا إليها الإسلام، ولكن في شكل معاصر.
تاريخياً، فإنه منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم، ظلت الدولة الإسلامية بهذا المفهوم دولة علمانية ومدنية؛ فقد كانت على الدوام تفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، ولم تعرف حكم رجال الدين. ومثلها مثل دول الاستبداد الأخرى، كانت قيادة الدولة تأخذ مكانها بالتوريث أو بالاغتصاب من قبل قادة الجيوش أو بالثورة المسلحة، بينما اكتفى علماء الدين بمهام القضاء، وتخلوا عن تناول عدالة وشرعية الحكم لصالح إطاعة ولي الأمر ودوام حكمه ما لم يعص الله تعالى. وهي معصية متلبسة ومستحيلة الإثبات، فسرها بعض الفقهاء بقيام ولي الأمر بالطلب إلى الناس ارتكاب المعاصي.
ومنذ نهاية القرن الهجري الأول (730 ميلادي) وحتى مطلع القرن الميلادي الماضي، لم يتطرق الفقهاء والأئمة إلى مشروعية السلطة السياسية وشرعية الحكام. هذا ما فعله الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، وابن حنبل، والشافعي؛ وأقره الغزالي وابن عربي، ووافق عليه أحمد بن تيمية، وتلميذه قيم ابن الجوزية، وما نقله السلفيون عنهما، انتهاء بمحمد بن عبدالوهاب شيخ الوهابية في الحجاز.
أما الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة التي ينادي بها البعض، فإن دولة الخلافة الراشدية، وهي أفضلها، قد عصفت بآل البيت والصحابة وأركان الدولة في حرب دامت ربع قرن، بدأت باختلاف الصحابة على الخلافة، ومرت بمقتل ثلاثة من الخلفاء، رضي الله عنهم، وانتهت بسقوط الخلافة بيد الأمويين الذين جعلوها وراثية. فلم تكن الخلافة يوماً مثالاً يحتذى، بقدر ما كانت عبرة ينبغي الاستفادة منها. وليس بالمثال الذي يحتذى أيضاً نموذج الدولة الدينية الحالي في جمهورية إيران الإسلامية، حيث ما تزال رحى حرب اختطاف الثورة دائرة بين رجال الدين، وحيث قتل المئات منهم حتى الآن، وعُزل العديد من آيات الله من مواقعهم الدينية والسياسية، وأُقصي كثيرون من كبار رجال العلم والسياسة من الحياة العامة، في انتهاك فاضح لحقوق المشاركة السياسية. ويجري كل ذلك تحت ولاية المرشد (الولي الفقيه) كنائب عن الإمام الغائب بحسب الفقه الشيعي.
يبدو أن الخشية من العلمانية تأتي من ارتباطها بالديمقراطية كنظام سياسي، يربط مشروعية الحكم وشرعية السلطة السياسية والحاكم بموافقة الشعب، ويؤمن بتداول السلطة، ما يجعل خصومها من التيار السلفي يتهمونها بمعاداة الدين. وعندما اختبروا عملياً في تونس ومصر، لم يجدوا أمامهم غير الانتخابات الشعبية، سواء لاختيار رئيس الدولة، أو لإعطاء المشروعية لمجلس الوزراء من قبل مجلس نواب انتخبه الشعب.

[email protected]