أين حرمة رمضان؟

شهر رمضان المبارك من الأشهر الحُرُم التي حُرِّمَ فيها القتال منذ عهد إبراهيم الخليل (عليه السَّلام)، واستمر هذا التحريم حتى زمن الجاهلية ثم الإسلام.اضافة اعلان
واليوم أصبحنا نلاحظ عدم التورع أو على الأقل التفنّن في قتل الأبرياء حتى في الأشهر الحُرُم- وهنا لا اقصد القتال الدفاعي، أو الاضطراري وإنما المقصود القتال الهجومي غير الاضطراري- وعليه يفترض أن تكون هنالك حرمة للشهر الفضيل وللصائمين وعدم جعل أَزْرَار الموت، أو أَزْنِدَة السلاح لعبة بأيادي من لا يحبون الحياة والتعايش السلمي وبالمحصلة ازدياد القتل العشوائي.
رمضان في العراق كان فيما مضى شهر السلام والصيام والمحبة والأطباق المتبادلة بين الجيران وشهر السهرات البريئة، والمنافسات الشعبية على الفوز بلعبة المحيبس (الخاتم) وغيرها من الألعاب الشعبية التي تعبر عن الحب والسلام بين الأحياء والمدن.
ورمضان العراقيين اليوم صار مختلفاً تماماً، بات شهراً للحروب والقتل الجماعي الذي يطحن مئات الأبرياء، وتدفن فيه عوائل بأكملها تحت الركام، وآخرها المجزرة التي وقعت في الموصل منتصف حزيران (يونيو) الحالي لعائلة الشيخ (محمد غانم الصفار)، إمام وخطيب جامع الشيخ فتحي، وأخيه الشيخ (أحمد) إمام وخطيب جامع الإمام محسن، و(33) شخصاً من أفراد عائلتهم، حيث كانوا يختبئون في قبو منزلهم، واستهدفتهم إحدى الطائرات بعدة صواريخ، ودمرت منزلهم، وبقوا محاصرين لأكثر من ثلاثة أيام، ثم تدخل الأخيار لإنقاذهم - رغم المخاطر- إلا أنهم قضوا جميعاً قبل إنقاذهم في مجزرة تؤكد وحشية غريبة في التعامل مع المدنيين في معارك الموصل الحالية!
وفي رمضان العراقيين اليوم أيضاً وصل الاستخفاف بأرواح الأبرياء إلى استغلال أوقات الإفطار لتنفيذ الجرائم. وقبل أيام انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لمجموعة من المجرمين وهم يهاجمون الدور السكنية قُبيل الإفطار بعد أن يُرسلوا أحدهم وهو يحمل التمر وبعض قناني اللبن؛ وحينما يدخل الضحية لمنزله - ومع بقاء الباب مفتوحاً بانتظار إرجاع الصحون للمجرم- في هذه الأثناء يدخل بقية أفراد العصابة للمنزل.
وبعد يومين من الجريمة أعلنت وزارة الداخلية أنه تم "القبض على احد أفراد العصابة - المكونة من أربعة مجرمين- التي نفذت عملية سطو مسلح على منزل بمنطقة المنصور غربي بغداد، وإصدار أوامر قبض على بقية أفراد العصابة، وأن فرداً آخر من العصابة قد قتل خلال عملية السطو".
الحادثة صُورت من منزل العائلة المقصودة حيث كانت هنالك كاميرات مراقبة وفشلت العملية دون إطلاق نار من قبل العائلة، لكن الغريب أن الوزارة تدّعي أن أحد أفراد العصابة "قد قتل في عملية السطو"! فمن الذي قتله؟!
إحدى القنوات الفضائية التقت برب الأسرة المستهدفة فقال: "إنه لم يطلق النار عليهم"، وقد أظهر الشريط الفيديوي أفراد العصابة يهربون لمفاجأة العائلة لهم بمراقبتهم، أو لأي سبب آخر غير واضح في الفيديو. فمن الذي قتل هذا المجرم فيما بعد؟!
أعتقد أن الأمر تقف وراءه أطراف لها غايات سياسية، وبعد اكتشاف العصابة تم تصفيتهم، وهذا الأسلوب الإجرامي ليس جديداً.
مقابل هذه الصور المؤلمة والسلبية تابعنا قبل يومين صوراً مليئة بالفخر والرجولة سطرها أهالي الجانب الأيسر في الموصل حيث وقعت حادثة فيها الكثير من الدروس والمعاني الإنسانية النبيلة، وذلك حينما اجتمع المصلون لأداء صلاة العشاء والتراويح في احد المساجد، وسمعوا نداء للتبرع بالدم في المستشفيات بسبب همجية القصف الذي لا يفرق بين المقاتلين والمدنيين، وازدياد أعداد الجرحى والنقص الحاد في الدم، وفي ساعتها انقلب المسجد إلى صالة للتبرع بالدم لجرحى المدينة، ليؤكدوا للحاقدين أن تدمير الموصل لا يعني نحر نخوتها وأصالتها.
إن محاولات طمس الصور الرائعة في رمضان للعراقيين لن تفلح، وإن حب العراقيين للحياة سيدفعهم لمزيد من الابتكار والتضحيات والصمود والتمسك بالحياة حتى تنتهي هذه المرحلة غير الواضحة والتي لم تظهر فيها ملامح بناء دولة المواطنة حتى اليوم.