الإسلام السياسي وتحديات الحكم

سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، لم يوص بمن يخلفه عندما دنا أجله، ولا بدا منه طوال حياته ما يشير إلى مسألة خلافته. ولا يصح أن نفهم من ذلك غير أنه نبي الله ورسوله، وليس لمثله خليفة. فالخليفة لا يكون لنبي، وإنما لحاكم يخلفه لكي يتولى الحكم من بعده. وقد توفى الله سيدنا محمدا قبل أن يتحول المجتمع الإسلامي إلى دولة، ونودي بأبي بكر رضي الله عنه من بعده قائداً لمجتمع المسلمين الآخذ في التحول، مع الدعوة الإسلامية، من النظام القبلي إلى ما يشبه الدولة المنظمة.اضافة اعلان
تأخر قيام الدولة فعلياً إلى ما بعد خلافة أبي بكر التي استمرت لسنتين، انشغل فيها بحروب الردة. فابتدأ تشكل الدولة في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه الذي أرسى بيت مال المسلمين، ومأسس الجيش، وعين الولاة. فكان أن دبر اغتياله من تضررت مصالحهم من تعزيز أركان الدولة، وبخاصة الولاة الذين بدأوا يخشون من العزل، وممن كانوا يتطلعون إلى الولاية ولا يرون فرصهم مع الخليفة العادل.
مع بداية تشكل الدولة في عهد سيدنا عمر، برزت معضلة اختيار الحاكم. وكان سبق ذلك أن استُخلف سيدنا أبو بكر بالمبايعة على أساس الشورى بين من لم يفوضهم أحد بها. ثم تم استخلاف سيدنا عمر بوصية من سيدنا أبي بكر. فيما أوصى عمر بدوره بلجنة من الحكماء (أهل الحل والعقد) ليتولوا اختيار من يحكم المسلمين من بعده. فلم تكن هناك قاعدة مرجعية محددة لاختيار الحاكم الذي هو رأس الحكم والدولة، ولم تكن هناك، من بعد، قاعدة لمحاسبته أو عزله على سوء إدارته كولي للأمر، إلا معصية الله التي قد يحتاج إثباتها إلى ما يحتاجه إثبات واقعة الزنى.
لم تأت المرجعيات الدينية أيضاً بقاعدة لبناء مؤسسات الحكم؛ سواء التي تتولى إدارة شؤون الدولة (السلطة التنفيذية)، أو التي تتولى وضع القواعد المنظمة لإدارة الدولة (السلطة التشريعية)، أو تلك التي تتولى القضاء بين مكونات المجتمع. كما لم تأت هذه المرجعيات بقاعدة محددة لكيفية اختيار الأمة للقيادات العليا لتلك المؤسسات. وباسناد اختيار تلك القيادات لـ"أهل الحل والعقد"، يبقى الأمر بحاجة أيضاً إلى قاعدة تحكم اختيار هؤلاء، حتى لا يبقى اختيارهم من مهام ولي الأمر، فتتركز لديه السلطات.
في جانب البناء الاقتصادي، لا يقل الالتباس والتعقيد لدى المرجعية الدينية عما هو في جانب البناء السياسي. فالزكاة لا تكفي بديلاً للضرائب في مسألتي التوزيع العادل، سواء للدخل أو لعوائد التنمية. وبيت مال المسلمين قد يكون مكملاً لوزارة المالية، لكنه ليس بديلاً واقعياً لها، خاصة بعد اندثار الغنائم كمصدر دخل للدولة. وقد اضطر بعض المفكرين الاقتصاديين المتدينين إلى اجتراح فكرة البنوك الإسلامية، لكنها تظل بنوكاً على أي حال. وهم يواجهون اليوم معضلة تفتت الحيازات الزراعية بسبب الإرث، وسوف يضطرون في النهاية إلى إيجاد حل ما. ومثلها أحكام كثيرة تعود جذورها وأسبابها إلى غياب المؤسسة الدينية المستقلة الجامعة، وازدهار شيوخ السلاطين، وتوقف الاجتهاد منذ القرن السادس للهجرة (1200م).
كذلك حال الشأن الاجتماعي ومسألة المواطنة. فالمرجعيات الإسلامية أبقت على حال الجواري كما الرقيق من الإماء (ما ملكت أيمانكم). وذهب بعض المذاهب شتى الاختلاف في مسألة الزواج، حتى صار له أنواعه المتعددة المستنكرة بين المذاهب. ويحار المفكرون الإسلاميون في مسألة رجم الزاني، وقطع يد السارق، واستيفاء الجزية من أهل الكتاب بعد أن صاروا مواطنين في الدولة؛ فهل يمكن أخذ الجزية من مواطني الدولة غير المسلمين؟

[email protected]