الحركة الصهيونيّة

تحتفل الحركة الصهيونيّة هذا العام بالذكرى الـ110 لتأسيسها في مدينة بازل (بال) السويسريّة، على يد الصحافيّ النمسويّ-الهنغاريّ ثيودور هرتزل. واحتفالها، كلّ عام، لا بدّ أن يستدعي الى الذاكرة الطريق الشاقّة والمتعرّجة التي سلكتها الحركة هذه وصولاً الى نجاحها، في مقابل الطرق التي سلكتها المشاريع العربيّة المقابلة وانتهت بها الى الإخفاق.

اضافة اعلان

فلنتذكّر أنه في العام 1897 رفضت أكثريّة يهود أوروبا دعوة الصحافيّ المؤسّس، لا سيّما فئة المتموّلين اليهود كآل روتشيلد وغيرهم. فأكثريّة اليهود العلمانيّين ابتغت العيش في البلدان التي تقيم فيها وتحسين أوضاعها من ضمن تحسين الأوضاع العامّة للبلدان تلك. أما أكثريّة المؤمنين منهم (وكانت روسيا، لا أوروبا الغربيّة، فردوس مؤمنيهم) فاعتبرت أن دولة اليهود تقوم في السماء لا على الأرض.

هكذا عجز هرتزل عن عقد المؤتمر التأسيسيّ في أيّ من المدن الأوروبيّة الكبرى، ما دفعه الى مدينة سويسريّة لم تكن يومها سوى بلدة كبيرة تُدعى بازل.

فلم تبدُ مقنعةً لليهود حجّة هرتزل في ضرورة إنشاء وطن قوميّ لليهود بسبب اللاساميّة في أوروبا كما كشفتها "قضيّة درايفوس" الشهيرة في فرنسا. والمعروف أن هرتزل نفسه تحوّل الى الصهيونيّة حين جاء كصحافيّ الى باريس لتغطية تلك القضيّة. هناك لمس الحقيقة المُرّة وهي ان البلد الذي كان الأوّل في تحرير اليهود ومنحهم حقّ المساواة بعد ثورة 1789، كان هو نفسه البلد الذي اتّهم الضابط اليهوديّ درايفوس، زوراً وبهتاناً، بالتجسّس لصالح الألمان، وعبّر عن ميول عريضة، قوميّة وعسكريّة ودينيّة، كارهة لليهود.

لكنّ الذي نقل الحركة الصهيونيّة من تلك الحال المتواضعة الى ما آلت إليه، تجسّد في تطوّرات ثلاثة أخرى بعيدة الأهميّة، بعضها موضوعيّ وبعضها ذاتيّ وإراديّ، هي التي تفسّر القوّة العسكريّة وغير العسكريّة لدولة إسرائيل:

فأوّلاً، كان لتحوّل لثورة أكتوبر الروسيّة في 1917 من مشروعها الأمميّ الأصليّ الى مشروع بوليسيّ وقوميّ، أن نفّر القطاعات اليهوديّة الواسعة التي راهنت على أن يأتي حلّ المشكلة اليهوديّة من طريق انتصار الاشتراكيّة. لكن الضربة الأقوى لدعاة الانصهار ورفض الصهيونيّة حصلت مع وصول النازيّين الى حكم ألمانيا في 1933. حينها تأكّد لأكثريّة يهوديّة ساحقة أن البقاء في أوروبا لا يحمل من الوعود إلاّ الموت، وأن لا مهرب تالياً من البحث عن "وطن قوميّ" لها.

وثانياً، لم يؤدّ نفور الحركة الصهيونيّة من لاساميّة أوروبا الى نفور من الأوروبيّة نفسها (وهي كانت حال العرب الذين نفروا من المحمول الحداثيّ تبعاً لنفورهم من حامله الاستعماريّ). والحال ان هرتزل ومن أكملوا عمله حرصوا على تقليد الأوروبيّين، وهم أصلاً منهم، في طرائقهم العقلانيّة والمؤسّساتيّة والحديثة. فالحركة الصهيونيّة ذاتها بدت جزءاً لا يتجزّأ من الانبعاث القوميّ المتأخّر الذي شهدته بلدان أوروبيّة كألمانيا وإيطاليا. بيد أنها، فوق هذا، حاكت الجهود الأوروبيّة منذ أنشأت، عام 1901، "الصندوق القوميّ اليهوديّ" ثم، بعد عامين، "البنك الأنغلو فلسطينيّ"، وفي 1907 منظّمة "هاشومير" شبه العسكريّة التي انبثقت منها تالياً منظّمة "الهاغانا"، وبعد ذاك نقابة "الهستدروت" العمّاليّة في 1920، وصولاً الى إنشاء الجامعة العبريّة في القدس عام 1925. وبإقامة هذه المؤسّسات كان المجتمع اليهوديّ في فلسطين، الذي تشكّله الهجرات المتعاظمة، يقع على تأطيره المؤسّسيّ الذي يعقلن جهوده ويصبّها في أكثر الوجهات تماسكاً وتكاملاً وإنتاجيّة.

وفي ما بعد إقامة الدولة العبريّة، لعب اعتماد النظام الديموقراطيّ البرلمانيّ دوراً حاسماً في تقوية الدولة الصهيونيّة وتعزيزها. فعبر النظام المذكور توفّرت أوّاليّات امتصاص النزاع سلميّاً، علماً بأن إسرائيل مجتمع ضعيف التجانس بات يتشكّل من كتل ضخمة (الشرقيّين والغربيّين والعرب والروس...) يصعب التعويل على قواسم مشتركة تشدّ واحدتها الى الأخرى.

وثالثاً، أن الدعم الغربيّ الذي حظيت به الحركة الصهيونيّة، ومن ثمّ وليدها دولة إسرائيل، جاء ترجمة لخيارات أساسيّة ثبت صلاحها. ففي الحرب العالميّة الثانية قاتلت الميليشيات اليهوديّة ضدّ الألمان، الى جانب البريطانيّين الذين تسلّحت وتدرّبت على أيديهم. أما في 1956، وبعدما اكتشف بن غوريون ان الصعود الأميركيّ الجديد هو الذي حمل اسرائيل على الانسحاب والتراجع في "حرب السويس"، فاستبدل الاسرائيليّون عواطفهم وروابطهم البريطانيّة-الفرنسيّة بأخرى أميركيّة. وأما في 1967 فربطت تل أبيب حربها بمجريات الحرب الباردة، وقدّمت لواشنطن، بعد احتلالها أراضي عربيّة واسعة وهزيمتها السلاحَ السوفياتيّ، هديّة لا تُثمّن. هكذا سار قادة الدولة العبريّة دوماً مواكبين الوجهة النامية عالميّاً، متقاطعين معها أو مندمجين فيها. وكان التعبيران الأخيران عن هذا المنحى انخراط دولتهم في الاقتصاد المعلوماتيّ ما بعد الصناعيّ الى أن صارت إحدى أبرز قلاعه العالميّة، وإفادتهم من انهيار الاتّحاد السوفياتيّ الذي زوّدهم بكتلة سكانيّة ضخمة وعالية التأهيل والكفاءة نسبيّاً.

هل كان في وسع العرب والمسلمين، بوصفهم أكثريّة هذه المنطقة، أن يذيبوا الصهيونيّة؟

لنلاحظ أنه بُعيد توقيع اتّفاق أوسلو، عام 1993، وظهور علامات التفاؤل بالمستقبل، راح عدد من المثقّفين الاسرائيليّين يتجرّأون عليها، وبدأ الكلام عن "ما بعد الصهيونيّة". إلاّ أن الأمور ما لبثت أن تردّت كما هو معروف. ومع تردّيها، حيث لعبت العمليّات الانتحاريّة دوراً أساسيّاً وبارزاً، عادت الصهيونيّة تقوى وتشتدّ وتتصلّب.

كاتب لبناني