السبب المكتوم في صعود الأصوليات

حين ننظر الى المنطقة العربية نظرة إجماليّة، وتحديداً إلى صعود القوى الإسلاميّة الراديكالية في سائر بلدانها، لا يمكن القفز فوق عامل نادراً ما يُذكر، حتى ليجوز وصفه بالشقّ المسكوت عنه في الظاهرة تلك. فقد سال حبر كثير في وصف التحولات الديموغرافية، والاحباطات الاقتصادية، والمشاعر الجريحة حيال فلسطين والعراق، وبعض السياسات الرسميّة المعتمدة في رفع وتائر القمع وتقليص الخدمات التي عوّض الأصوليّون بعضها. وغالباً ما قيل، في السياق هذا، إن العناصر تلك لعبت، في مناخ العولمة الاقتصادية والقلق حيال جديدها المباغت، دور التأسيس لقوة الإسلام السياسي الجذري وإنعاشها. وهو صحيحٌ لم يعد يماري أحد فيه أو يشكّك.

اضافة اعلان

بيد أن ذاك العامل الغائب عن التحليل يتناول طرق النظر الى"الغرب" ومسؤولية تلك الطرق في توليد الظاهرة المذكورة. ذاك أن التأويل الذي اعتُمد منذ أواخر الخمسينيات حتى أواسط السبعينيات، وقد حملته الناصريّة وحزب البعث وحركات اليسار عموماً، ثم عمّمته بإسهاب وتوسّع، قام على ركيزتين اثنتين: من جهة، رفض الغرب بوصفه قوة سياسية معادية وقوة اقتصادية نهّابة للشعوب، مع التذكير الدائم بماضيه كقوة عسكرية استعمارية وغازية. ومن جهة أخرى، طلب محاكاة الغرب كنموذج للتقدم، ومن ثم استعارة قيم القومية والاشتراكية، وأحياناً العلمانية والديمقراطية، من بلدانه.

وفي محاولة التوفيق بين الركيزتين هاتين، قيل إن مقاتلة الغرب السياسي والاقتصادي، وبقايا الغرب العسكري، شرط شارط لبلوغ التقدّم لدينا وردم هوّة التخلّف التي تفصلنا عن الغرب ذاك. وإذ تحولت هذه المعادلة الى أهم ثوابت الانشاء النضالي"المناهض للامبريالية"، جاء الانحياز الى الاشتراكية السوفياتية محكوماً بالرغبة في تحسين شروط القتال والتصدّي تمهيداً، كما قيل، للتعجيل في ردم الهوّة.

وكانت المشكلة الأمّ أن الركيزتين المذكورتين ليستا متجانستين، وأن واحدتهما تعمل بالضرورة ضد الأخرى فتنافيها وتناقضها. فليس طبيعياً، وليس من الطباع الانسانية، أن يميل المرء الى مقاتلة خصم يريد أن يستعير قيمه، أي أن يكرهه نصف كره ويحبّه نصف حب في وقت واحد. ولا يمكن، بالتالي، أخذ القومية والاشتراكية وغيرهما ممن هو عدو طامع، الصراع ضده مسألة وجود وعدم.

بل الطبيعي والانساني أن يطوّر المرء كراهيته لقيم العدو، ولكل ما يمتّ الى العدو بصلة، قريبة أو بعيدة، فيما هو يمارس تجاهه الكراهية. وبالمعنى نفسه، لا تكتمل قدرته على مقاتلته، بعد التعبئة والتحريض ضده، الا بالإمعان في أبلسته ونسب العيوب والمثالب جميعاً اليه. فمن غير المجدي في المعارك وصف العدو بأنه نصف عدو، وبأن لديه ما يقدّمه لنا بعد التغلب عليه في المواجهات السياسية أو العسكرية.

وبدورها، فالمطالبة بالفرز والتمييز بين العدو وبين قيمه ومثالاته تبدو أقرب الى تمثيل ذهني يحيله الواقع وهماً، إذ البشر، لا سيما من يشدّهم هذا النوع من المعارك ويغريهم، يميلون الى التعامل معه كلاًّ واحداً بلا تفاوت أو فوارق داخل مستوياته.

فليس صدفة، بالتالي، أن الوحيد بين قادة العمل الاستقلالي العربي الذي أكّد على ضرورة التحرر من الاستعمار والتعلّم منه في وقت واحد، ورأى أن النضال ضده ينبغي ألاّ يذهب بعيداً ودموياً بحيث يبدّد إمكان الافادة منه بعد نيل الاستقلال كان الحبيب بورقيبة. بيد أن الرئيس التونسي الراحل لم يكن من دعاة التعبئة والإهاجة الجماهيريتين بقدر ما كان رائد الدعوة الى التدرّجيّة في طلب الاستقلال وفي نيله.

وفي المقابل، لم يكن عديم الدلالة أن القوى التي حكمت باسم الماركسية ما لبثت، تحت وطأة الحرب الباردة والصراع مع الغرب، الى تمجيد قومياتها وأحياناً تقاليدها الدينية والتراثية التي كانت تصفها بالرجعية.

وحيال هذا التناقض الذي أرسته الحركات القومية والوطنية العربية ذات المنحى الراديكالي، تحدث الأصوليون الاسلاميون بلغة أخرى ولسان آخر.

فهم طابقوا وماثلوا بين معاداة الغرب ومعاداة قيمه ومثالاته وما يرمز اليه. وليس مجرد صدفة أن تزخر أدبياتهم، وعلى نحو دائم، برفض التبشير المسيحي الذي كان من أبرز الحوافز وراء إنشاء حركة الاخوان المسلمين في الاسماعيلية عام 1928. لكنها زخرت، كذلك، برفض طرق الحياة الغربية التي أطنبت في وصفها بالتهتك ورميها بالتفسخ والانحلال الخلقي وغير ذلك. وقد اعتبر الاسلاميون دوماً أن الأفكار الوافدة من الغرب (وطبعاً ليس المواد الوافدة من هناك، كالدواء مثلاً) أفكاراً "مستوردة" ومرفوضة، وأننا نملك بديلاً منها خاصاً بنا ومنبثقاً من الإسلام، يصحّ الأمر في الفلسفة والاقتصاد والتعليم وغيرها. ومعروفةٌ تجربة سيّد قطب، أبرز رموز الاسلاميين العرب في القرن العشرين، التي ساقته الى الاسلام السياسي بنتيجة هجرته الى الولايات المتحدة وعجزه عن الاندماج في مجتمعها، ما أورثه قدراً من الرفض والحدّة حيال المجتمع المذكور نفسه.

وبهذه اللغة البسيطة والقاطعة التي تشبه العقل البسيط والقاطع لـ"الجماهير"، أمكن الابتداء بتعبئة الأخيرة على نحو متجانس ومتماسك وفعّال في نتائجه. فلم يعد مطلوباً الا الافادة من الاحباط الذي ولّدته الوعود التحررية المنتفخة للحركات الراديكالية السابقة، ومن ثم عجزها عن تلبيتها. وهو جميعاً ما يواجهنا في المستقبل، وقد رأينا ما رأينا على أيدي الاسلاميين من معاداة التقدم، بسؤال بسيط: أليس من الجدير أن نخفض نبرة العداء للغرب في السياسة من أجل أن نسهّل الدعوة الى التعلّم من الثقافة الغربية؟

كاتب لبناني مقيم في لندن