الشرطي الداخلي!

في تركيا، وغالبية دول المنطقة التي اجتازت عواصف الانتفاضات والانقلابات منذ العام 2011، يتساءل معشر الإعلاميين -خاصة المستقلين منهم- عن كيفية الصراع مع البقاء فوق خيط رفيع متأرجح بين الخوف والتواطؤ؟اضافة اعلان
فبعد العيش لسنوات قليلة وسط فضاءات إعلامية أكثر تعددية، ينكفئ الإعلام اليوم إلى خانة الاستهداف كما في الأمس، بعد أن زرعت غالبية الحكومات خندقا رادعا من الخوف في قلوب الناس، وفرضت إيقاعات الاستنجاد بالدولة العميقة، على حساب الدمقرطة والتعددية.
فالإعلاميون مستهدفون من السلطة وأدواتها، بمن فيهم أبناء وبنات جلدتهم من المتأهبين للتطوع دفاعا عن أخطاء المسؤولين بالردح والشتم والتخوين، وبث المعلومات المغلوطة والمضللة. ثم يأتيك رد فعل عنيف من المجتمع، بخاصة رجال الأعمال المتحالفين مع السلطة والباحثين عن لقمة العيش. وهؤلاء هم الأكثرية التي لم تقتنع بجدوى الانتفاضات ومآلاتها، باعتبار أنها لم تجلب لها حياة أفضل، بل فتتت دولا وشرّدت شعوبها. ثم يصطدم سقف الإعلام بضعف الحياة الحزبية، ونكوص أركان المجتمع المدني، في دول شمولية باتت تخيّر شعوبها بين الخنوع والاكتفاء بلقمة العيش من دون حرية وتعددية، وبين خسارة الأمن والاستقرار.
إذ يخضع المجال العام هذه الأيام، في كثير من البلدان، لسيطرة تيار واحد، يتهم كل صحفي يحاول التغريد خارج السرب بالعمالة والتآمر على الدولة لهدمها أو تنفيذ أجندات أجنبية. وهكذا وحده صوت السلطة وأبواقها المتشعبة يظل يصدح في الأجواء. ممنوع ارتفاع أي صوت يمثل حلما بالخبز، والحرية والعدالة الاجتماعية؛ الشعارات الثلاثة التي ردّدها طالبو التغيير في غالبية الدول العربية، قبل أن ينزل عليهم سيف الحجر والتخويف.
في هذا الواقع، باتت مهنة الإعلامي المحترف المستقل من أصعب المهن في واحدة من أخطر مناطق العالم، حيث تتهاوى مناسيب الحريات الإعلامية والشخصية والسياسية مقارنة مع سائر القارات، بحسب مقاييس المنظمات الحقوقية الدولية.
ذلك أن الإعلاميين يدركون الآن أن مجرد احترام أخلاقيات المهنة ونواميسها على نحو يقدر عقول الناس، صار مجلبة للمخاطر الجسدية والأذى المعنوي والنفسي والمادي في العديد من الدول؛ وكذلك تلفيق التهم والمنع من السفر ومواجهة حملات الشيطنة على منصات التواصل الاجتماعي، تشنّها جيوش إلكترونية رسمية وخاصة.
اليوم، تنحصر "الوطنية" -في نظر هؤلاء-  بالتصفيق للسياسات الرسمية واللعب في مربع السلطة. وعلى الإعلامي أن يكون واضحا: "إما مع السلطة أو ضدها"؟ بخلاف ذلك سيدفع الثمن.
أدوات التعايش مع هذه المعادلة تتضاءل يوما بعد يوم. البعض يستمر في تحدي الخطوط الحمراء ثم ينظر حوله ويصاب باليأس ويتوقف. يتجّه لطرق قضايا أكثر حيدة وأقل وجعا للرأس؛ مثلا زراعة البندورة وحال الطقس وأخبار العالم من دون الالتفات للشأن المحلي.
أما الغالبية، فتلتزم بقرارات منع النشر المتكررة، فيما يخفي بعضهم الحقائق عمدا ويمارس الرقابة الذاتية عبر إطلاق العنان "للشرطي الذي في داخله"، فيلتزم بالرواية الرسمية والتصريحات المؤيدة لها ويمنع ظهور شخصيات معينة "ليست على قد المقاس المطلوب" على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد والمواقع الالكترونية. فمثل هذه الشخصيات "المتمردة" قد تفسد طبخة السيطرة على العقول والأفئدة.
فكيف يتكيّف الصحفيون المستقلون مع هذه المحددات؟ السؤال صعب وخيارات الإجابة محدودة. من يمتلك مهارات ولغات يغادر بلاده للعمل في مؤسسات أخرى أكثر استقلالية، حيث يفيد ويطور نفسه ويستفيد. من يشعر أنه على قائمة الاستهداف يبحث عن طرق للهجرة كلاجئ سياسي أو يفوز بمنحة لاستكمال الدراسة في الخارج. يلجأ آخرون لنشر تحقيقاتهم بأسماء مستعارة وفي وسائط إعلام خارجية، قد لا تخلو هي الأخرى من أجندات مخفية.
من لا يستطيع السفر أو العمل خارج الوطن عليه التأقلم مع الوضع القائم، وعند ذلك تظهر دوافع الناس وما في دواخلهم من مبادئ وقيم.
وهنا، اتفق مع رأي الزميل المصري يسري فودة في مقال نشره على موقع "دويتشه فيله" الألماني بعنوان: "الخيط الرفيع بين الخوف والتواطؤ"؛ يشخّص فيه تشعبّات تداخل السياسة والإعلام في بلاده خلال السنوات الثلاث الماضية.
للتذكير، انتقل يسري إلى مقاعد المشاهدين قبل عامين، بعد اضطر لوقف برنامجه السياسي الحواري "آخر كلام"، مع اشتداد الضغوط عليه وعلى مالك القناة المصرية. ويذكر في مقاله: "في مناخ كهذا أجد في صدري جانبا أستطيع من خلاله أن أفهم/ أتفهم دوافع نوعين من الناس في بلادنا الآن: هذا الذي يتملك الخوف منه فيمشي بجوار الحائط حتى وإن لم تكن له حاجة في شيء. نحن بشر، وقدرتنا على التحمل تختلف. وذلك الذي له حاجة ويريد أن "يعيش" أو أن يستمر في إعالة نفسه (وربما إعالة آخرين وراءه). لكنني أخص من هذين النوعين هؤلاء فقط الذين تتطلع قلوبهم إلى فرج الله. ومن نوافل القول في هذا السياق إن احتراما لا يوجد في صدري لأولئك الذين يستندون إلى أي من هذين الدافعين تطوعا بدعم الظلم والباطل. ليست هذه المشكلة على أي حال. المشكلة الكبرى تكمن في أن خيطا رفيعا يقف بين النوعين الأولين واحتمال الانزلاق الى المرحلة التالية: التواطؤ. يخلق جهاد الوقوف دون هذا الخط الرفيع صراعا نفسيا ضاغطا لدى أصحاب النفوس السوية، تتراكم آثاره يوما بعد يوم، ولا ينجو منه إلا قليل".
يستطرد الزميل يسري: "لكن تجنب السقوط ليس طموحا كبيرا. وأحيانا يكون الصمت أبلغ من الكلام وأكثر قوة. أجبرنا على الجلوس في البيت لنحو عامين، كنت أتابع فيهما من يسقطون ومن يسكتون ومن يرحلون ومن لا يزالون لدى حافة الخيط الرفيع في انتظار فرج الله ومن ينحدرون من تحته الى حيث تصعب العودة، وما نزال جميعا نتابع. تعلمت أن المزايدة على خلق الله حماقة، وأن أقوى دليل على طزاجة عروق هذه الثورة هو استمرار القبضة الحديدية مثلما تعلمت أن تجنب السقوط إلى ما لا نهاية -على فداحة ثمنه- ليس طموحا كبيرا".
شكرا ليسري. والأمل كبير في أن يتجنب من تبقّى من إعلاميين مستقلين الفخاخ التي تنصب أمامهم. وفي حال تغلب الواقع عليهم، أطلب منهم فقط عدم الكذب أو تزوير الحقائق أو تعمد إخفائها.
فصراع البقاء مطلوب لأن التغيير قادم لا محالة. ولن تعالج مشاكل المجتمعات العربية -السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية والدينية- من خلال الصمت أو الترهيب والقمع، بل من خلال حرية التعبير والإقرار بالمشاكل وخلق حلول تدريجية يشارك بها المجتمع، تعالج جذورها بالتطوير والتحديث والتنوير.
علمنا التاريخ الحديث أن السكوت عن التجاوزات الفساد وسوء الإدارة يحاكي التواطؤ والمشاركة في الجريمة. قبل عقود، قرع إعلاميون مخضرمون وهيئات غير حكومية الجرس محذرين من مخاطر الاستبداد والفساد والطبقية في المجتمعات. أضاءت أقلامهم قنابل موقوتة تنذر باشتعال ثورات 2011. تحدثوا عن ضياع ملايين الأطفال في الشوارع بعيدا عن المدرسة. حذّروا من ارتفاع أعداد المتعطلين من العمل ومعدلات الفقر. ونبّهوا إلى أن الحكم الشمولي بيد فئة منتفعة والتوزيع غير العادل للثروات سيخرج المحتجين إلى الشوارع لا محالة.