العدل أساس الملك


بعد عقد من التراخي، المراوحة والالتفاف على جهود تحديث السلطة القضائية تحت مسميّات عدّة، نقترب الآن من ساعة الصفر؛ إصلاح بأثر رجعي لوقف تراجع تصنيف المملكة على مؤشري جاذبية الاستثمار وحقوق الإنسان.اضافة اعلان
فالسلطة القضائية تقف اليوم على مفترق طرق بعد تعيين القاضي البارز محمد الغزو (تكنوقراط) على رأس الهرم القضائي. بالتزامن، انطلقت آليات تنفيذ توصيات اللجنة الملكية لتطوير الجهاز القضائي، وصولا إلى ترسيخ نزاهة السلطة الثالثة واستقلاليتها، لضمان تحقيق العدالة وتعزيز سيادة القانون، أهم أركان الأمن والاستقرار.
فإما أن يقلع التحديث بخطى مضمونة النتائج ضمن المحطات الزمنية المقترحة، أو يترنح هذا المشروع للمرة الثانية، فننكص إلى المربع الأول، كما حصل في بدايات محاولات تحديث مرفق العدالة منذ عام 2002، حين كلّفت عديد لجان بوضع استراتيجيات متلاحقة ظلّت غالبيتها حبرا على ورق.
لكن ثمّة أمل بتعظيم فرص النجاح هذه المرة.
لماذا؟
لأن الملك عبدالله الثاني التزم شخصيا بمتابعة تنفيذ توصيات هذه اللجنة. ولأنه شدّد قبل أيام - خلال ترؤسه اجتماعا لمتابعة تلك التوصيات- على ضرورة إقرار القوانين المقترحة خلال الدورة الاستثنائية القادمة لمجلس الأمة. فالملك يعمل ليل نهار لاستقطاب المستثمرين الأجانب وحفز نظرائهم الأردنيين، لكنّهم بحاجة إلى ضمانات بتسريع البت في قضاياهم، من خلال تحديث المنظومة القضائية كيما تواكب الواقع وتحول دون تمييع القضايا وتعليق بعضها لسنوات.
ولأن مجلس الوزراء تحرّك سريعا لإقرار مشاريع القوانين التي اقترحتها اللجنة الملكية؛ وبعضها إشكالي، أحال المجلس حزمة القوانين إلى مجلس النواب، حيث أقرّت لجنته القانونية ثلاثة منها حتى الآن.
تتسارع آليات الإصلاح الآن بعد تراكم انتقادات المانحين وارتفاع شكواهم. خلال العقد الماضي، أهدر مانحون ملايين الدنانير على أمل تطوير الجهاز القضائي، لكن دون نتائج باهرة، وسط تراكم المشاكل الإدارية والفشل في تحديث مناهج أكاديمية خاصة بتدريب القضاة الجدد وتأهيل القدامى. وتواصل العمل بطرق ملتبسة إداريا وسياسيا، يصعب تجاهلها؛ في مقدمتها طول مدد التوقيف قبل بدء المحاكمات. كل ذلك أضرّ بسمعة الأردن، استثماريا وسياسيا، وأدّى إلى تراجع مؤشرات حقوق الإنسان في الداخل والخارج.
مصادر الضغط على القضاة جاءت من المحامين خارج نطاق اجراءات المحاكم، المتنفذون في القطاع الخاص، أعضاء البرلمان، القضاة الأعلى درجة، الأقارب والأصدقاء واعضاء المجلس القضائي بحسب آخر استطلاع لتقييم أداء الجهاز القضائي في الأردن العام 2008 مقارنة بالعام 2005. نفذ الاستطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية.
أما الآن، تطفو جرعة تفاؤل مع اختيار شخصية نزيهة، كفؤة، تحديثية ومستقلة بوزن القاضي الغزو، الذي تدرّج في هذا السلك صعودا إلى المجلس القضائي. وشكّل خروج المحامي هشام التل، المحسوب على التيار المحافظ مفاجأة للعديدين. وجبة التعديلات الدستورية الأولى منحت مجلس القضاء سلطة أكبر أمام انحسار دور وزارة العدل. لكن يبقى لشخصية رئيس المجلس القضائي بصمة واضحة لجهة تحديد النظرة إلى هذه السلطة باعتبارها "مرفقا قضائيا" أو "منارة للعدالة"؛ – أي تحجيم دورها أو تعظيمه.
مقربون من الغزو يؤكدون عزمه على تنفيذ  توصيات اللجنة الملكية. وإلى جانب وزيري العدل السابقين أيمن عوده، د. وصلاح الدين البشير، شكّل القاضي الغزو معهما "دينمو" اللجنة الملكية لتحديث القضاء، بحسب معلومات جمعتها كاتبة المقال.
الغزو نفسه عاش تجربة "ظالمة" عندما أقيل من منصب أمين عام وزارة العدل قبل أعوام - بعد عقود من العطاء المتواصل تخللته محاولات للتحديث اصطدمت بقوى شد عكسي. خسر الغزو موقعه آنذاك دون أن يتمكن أحد من منع إقالته، التي عكست في جوانبها تعسفا وشخصنة – وهي سمات باتت جزءا من العمل في القطاع العام وسط ضعف منظومة الربط والحل.
وبشق الأنفس نجح مع مجموعة من زملائه المتقاعدين في تسجيل ناد للقضاة المستقيلين لدى وزارة التنمية الاجتماعية. قبل ذلك، أجهض مشروع تأسيس ملتقى للقضاء ضمن استراتيجيات سابقة لتطوير القضاء، بسبب التقييم الحكومي السلبي لتجربة تأسيس نقابة للمعلمين بات لها ضجيج ومطالبات مسّيسة.
القاضي الغزو ترك بصمته عندما كان رئيسا لمحكمة عمان الابتدائية العام 2001،  عبر سياسته المستندة إلى "الحزم والعدل"، بحسب بعض من عمل معه. إذ دعم الكفاءات الواعدة ولم يتوان عن مواجهة القوى غير المنتجة. أدخل برامج الأتمتة وأسّس غرفة "إدارة الدعوى والوساطة القضائية"، كما ألحق القضاة ببرامج تدريب مستمرة، وفرض ولأول مرة تخصصات بين القضاء (مدني وجزائي)، بشكل علمي ومدروس. وحدّد مدد فصل الدعاوى، بحيث يكون الإنجاز أسرع دون التأثير على جودة الأحكام.
وفي لقاء ملكي حول محاولات الإصلاح القضائي العام 2009، شدّد الغزو على ضرورة "تجويد الحكم القضائي" وضرورة حماية القضاة من أي تدخلات لضمان إصدار قرارات مستقلة، هدفها تطبيق القانون.
القاضي الغزو قادر إلى حدّ كبير على التواصل مع نصف أعضاء السلك القضائي، ضمن الفئة العمرية 50 سنة فما دون، وكسب احترامهم من خلال القيادة عبر تقديم الأنموذج قولا وفعلا. فسلوكه المهني حافل بالإنجازات.
عدد من هؤلاء الشباب شاركوا في صوغ اقتراحات تحديثية وواكبوها عن كثب، تفهموا ضروراتها أو كانوا شهودا على بعض أوجه الترهل الذي طال السلطات الثلاث. عدد منهم يسعى لأن تكون الكفاءة أساس التعيين والترقيات في جهاز عانى كثيرا من التسييس. ولن يبدأ من نقطة الصفر. فالاستطلاع الأخير - 2009 بالمقارنة مع 2005 - أظهر ان رأي المتقاضين والمواطنين والمراجعين والموظفين والقضاء في مستوى عدالة ونزاهة وحياد الجهاز القضائي استمرت في تحسن مستمر.
اليوم، بات من الضروري إعلاء الثقة في منظومة العدالة، عبر ضمان استقلال مؤسسة القضاء وفرسانها. فالدستور يصرّ على أن القضاة مستقلون بقراراتهم. ومن الضروري ضمان إصدار أحكام عادلة، ذلك أن تجويد هذه العملية سيترك أثرا إيجابيا على انحسار الجرائم بدلا من سياسة "أخذ الحق بنفسي وباستخدام القنوة والسلاح والشبرية لأن المحكمة لن تنصفني".
المطالبة بالعدالة كانت أحد شعارات مرحلة الربيع العربي مطلع 2011، قبل الارتداد على محاولات الإصلاح السياسي والاقتصادي في الدول التي لم تهزّها الحروب والصراعات. ومن المستحيل مكافحة التطرف والإرهاب دون إرساء العدالة، رفع الظلم واستعادة هيبة السلطة القضائية، المفترض أن تكون صنوا للسلطتين التشريعية والتنفيذية وليس أقل شأنا ومكانة منهما. ويبقى غياب العدالة سببا رئيسا وراء نشر ثقافة التشدد والإرهاب المحيط بالمنطقة والعالم.
أولى علامات قياس نجاح القاضي الغزو ستأتي من خلال الشخصيات التي سيختارها لترؤس المحاكم الحيوية: بداية عمان والزرقاء وإربد، وكذلك الجنايات الكبرى والنيابات العامة والمحاكم الإدارية العليا. ثم تقاس بحجم الصلاحيات التي ستمنح لهم لنفض جهاز هذه المحاكم بطريقة عادلة قائمة على الحقائق والمراجعات المضمونة لتقارير ديوان الرقابة والتفتيش على المحاكم، الذي يرصد أداء القضاة. وهناك مقاييس أخرى تتصل بكيفية دعم المجلس القضائي ورفع سوية القضاة وتجويد الأحكام القضائي.
ولكي ينجح القاضي الغزو في مهامه الصعبة، على الحكومة تمكينه من تنفيذ قراراته بسرعة عبر منحه حرية إصدار قرارات داعمة مثل منح حوافز لتشجيع التقاعد المبكر وتخصيص موازنة تساعده على تهيئة البنية التحتية، والشروع في إنشاء مكاتب مؤهلة تليق بمقام القضاة والجمهور. وفوق ذلك قدرته على الحزم في تطبيق قانون منع التدخين في الفضاء العام، خصوصا داخل قصر العدل ووضع حوافز ومكافآت للقضاء المجتهدين.
نأمل أن يوفر القاضي الغزو فرصة لدخول سيدة إلى نادي المجلس القضائي الأعلى، الذي بقي حكرا على الرجل. ونأمل أيضا في أن يعطي المرأة أدوارا قيادية في اللجان الاستراتيجية والمواقع الحساسة في هذا السلك الذي يقترب عدد أعضائه من 1000.
تهّب عبر السلطة القضائية وفي أوساط المحامين نسمة ارتياح، بعد تعيين القاضي الغزو مدعوما بسلسلة قرارات ملكية وحكومية، وقريبا نيابية على أمل إنجاز الإصلاح القضائي وترسيخ مبدأ سيادة القانون. نأمل ان ينجح القاضي الغزو في مسعاه لتحويل القضاء إلى منارة للعدالة لتعزيز الأمن، الازدهار والاستقرار.
فالعدل أساس الحكم.