الفوضويّ

أريد أن أرفع احتجاجاً ما، أن أفتح فمي على اتّساعه لأصرخ. أريد أن أحمل كومةً هائلةً من الشّوك لأنثرها في طريق المارّة. أريد أن أرفع يديّ عالياً عالياً لا لأتضرّع، ولكن لأصفع بطن السّماء المنتفخ بالنّجوم البلهاء التي يسيل من أفواهها الضّوء، وأسبّب الرعب للكائنات.

اضافة اعلان

أريد أن أنتزع من بين أضلاعي تلك الإجاصة المعطوبة بالخيبات، لأهرسها تحت قدميّ بلا رأفة! الحقّ أقول لكم: لقد ضجرت، وأنّ حياتي لم تعد غير كيس هائل محتشد بالهزائم، وها أنا أجرّها ورائي كالجيفة لأرمي بها في جرفٍ أو منحدر.

الحق أقول لكم: لقد اتّسخت روحي، وعبّأ الظلام جوفي، ولم يعد يثيرني شيء، لا الشّعر ولا المرأة، ولا الشمس المريضة التي تمرّ كلّ يوم في سماء المدينة كالطاووس الأعرج، وتترك وراءها شريطاً طويلاً من الريش الأصفر.

الحق أقول لكم: لم أعد أؤمن بالفضيلة ولا بالرّذيلة، لا بالحب ولا بالبغض، لا بالرّايات المرفوعة ولا بالرّايات المنكّسة، لا بالقيود ولا بالحريّة، لا بالكلام ولا بالصّمت، في الواقع لم أعد معجباً بكل هذه الثّنائيّات التي تبعث في نفسي القشعريرة، وتسبّب لي الغثيان، فليست هذه الموازين التي اخترعتموها، غير أباطيل اعتدتم أن تقيسوا بها الأنفاس التي تتلجلج وتُطِلّ برؤوسها مثل ديكةٍ مذعورة، تتلامع في وجوهها السّكاكين.

ما الذي أراه أمام ناظريّ في هذا البلقع؟ ثمّة أشجار ناحلة ومجلّلة بالغبار تقف كالمتسوّلات على الأرصفة، بيوت مسمولة العيون تغرق في النّوم فيما هدير أنفاسها المتقطّع يتصاعد في جوف الظلام مثل رتل قطارات خربة، ثمّة الصحراء أيضاً هناك تتمطّى بأثدائها العظيمة العاطلة عن العمل، أمّا البحر فقد تخلى عن مهنته القديمة في حمل المراكب، وجلس على الشاطئ مثل شيخ ضرير ينتظر الصّدقة!

ندمي عظيم ندمي عالٍ، ويُحلّق في كبد السّماء إنّني أراه، كيف يعلو قليلاً ثمّ يهبط، جناحاه مثل سيفين بتّارين يشقّان السّماء، ومنقاره المدبّب الفتّاك في المقدّمة، ثمّ ها إنّني أراه كيف يهوي باتّجاهي بسرعة البرق، ألمح عينيه مثل كرتين من نحاسٍ محمّى، وعمّا هنيهة سيبطش بي!

 ونااااااءٍ قلبي يطفو كطابةٍ حمقاء فوق ماء العدم. في ساعات الضّجر القسوى أخلع جسدي المكتهل وأخلّفه ورائي كالقميص الممزّق، أمشي من دوني، أتحوّل إلى فكرة مجنونة وأدخل في رأس النّبات والحجر. ها! تحسّون بزلزلة سخيفة ومباغتة تحت أقدامكم! ترون هذه الاختلالات التي تحدث في جسد الطبيعة! الأرض التي ترنّ بالفقد! أنا وراء كلّ ذلك أعزف بيدي المدمّاة المبتورة الأصابع على وتر الحسرة المشدود.

لهذا كلّه أريد أن أملأ الكون بالفوضى، فقد حانت ساعة الفتك. أريد أن أرقص، أن أصرخ، أن أهذي وأجنّ، أن أطير وأسبح وأحلّق.

في رأسي تعول الريح، في رأسي قبائل عظيمة تدقّ طبولها، متسوّلون وأباطرة يشتبكون على قطعة حلوى مسمومة اسمها الحياة، في رأسي نساء ينُحنَ في شعاب جبل ويجررن وراءهنّ قمراً ذبيحاً، ولهذا ففي ساعات الضّجر القسوى أيضاً ينقذف رأسي مثل زهرة فضّةٍ كبيرة ويرتطم بالسّماء.

أريد أن أغيّر الملامح والأسماء، أريد أن أخلط الظّلام مع النّور، أريد أن أزوّج الحقيقة مع الخيال، وأريد درجاً طويلاً، معراجاً من نوع آخر مختلف أهبطه كي أصل إلى عتمة روحي، وألقي السّلام على نفسي.