بلد "الستّة ملايين زعيم"!

 

في الأردن ثمّة إحساس عارم بالتّفوّق، مستفحل بين النّاس. لا أحد يقبل أن يكون مواطناً عاديّاً! فالكل يعتقد في أعماق نفسه أنّه مختلف عن الآخرين، وأنّ الله حباه وحده بميّزات كثيرة لا تتوفّر لباقي الخلق، ولهذا فهو أحق منهم في قيادة المجتمع! في الأردن الجميع يتدخّل في شؤون الجميع، فليس هناك من أسرار، ليس هناك من خصوصية لأحد، طالما العيون تخترق بالنّظرات الحادّة الشبابيك، وما وراء الشّبابيك، والآذان تتجوّل هنا وهناك لالتقاط الأخبار! الكلّ مسؤول عنك، والكلّ يفرد جناح زعامته إلى أبعد حدّ ممكن، لذلك لن نكون مبالغين إذا قلنا إنّنا نعيش في بلد السّتّة ملايين زعيم!

اضافة اعلان

فأنت إذا خضتَ حواراً، لن يسمعكَ أحد، وسيقاطع كلامك الآخرون. بقوّة السّلاح سيفرض الكلّ رأيه، وهكذا غالباً ما تنفضّ الحوارات عن اللااتّفاق، وهذا أمر طبيعي طالما بقي أطراف الحوار متمسّكين بوجهات نظرهم، ولم يتنازلوا قيد أنملة عنها لصالح بعضهم البعض أو لصالح الحقيقة.

وأنت إذا تجاوزتَ بسيّارتك سيّارةً تتلكّأ في الطّريق، سوف تُفاجأ باستنفار سائق السيارة الأخرى الذي يطلق العنان لزاموره قبل أن ينطلق ويتجاوزك بتهوّر، وربّما يمطرك بوابل من الشّتائم!

وأنت إذا وقفت على الدّور لتشتري شيئاً أو لتستكمل معاملةً فتوقّع أنّ هناك من سوف يعتدي على دورك، وأنّك إذا لم (تناضل) من أجل تثبيت مكانك، فسوف تبقى في آخر الدّور.

المشكلة في هذه الحالات وغيرها أنّ حلّ الخلاف حول وجهة نظر معينة، قد يتطوّر من استخدام الكلام الشديد والجارح إلى استخدام الأيدي! وفي هذه الحالة ربّما تفاقمت الأمور واستدعت تدخّل أطراف أخرى!

حالة الخلاف السابقة بين الأفراد يمكن تعميمها على مستوى الجماعات والأفكار، فأبناء هذا الحزب يعتبرون أنفسهم الثوريين الوحيدين، فيما الآخرون مجرّد رجعيين! أمّا أبناء ذلك الحزب فيعتبرون أنفسهم مؤمنين مثاليين أمام غيرهم الذين هم كفرة وملحدون!

تُرى من المسؤول عن مثل هذه الأوضاع الغريبة والشّاذة التي تنتشر في السّلوك اليومي، والتي أساسها الغرور والغطرسة والشّعور بالتّفوّق والتّعالي على الآخرين؟ هل هي الأسرة؟ هل هي المؤسّسة؟ هل هي الدّولة؟ إنّنا بنظرةٍ فاحصة يمكن أن نرى أنّ مثل ذلك السّلوك ناتج في الأساس عن خلل بنيوي له امتدادات كثيرة ومتشعّبة في الحياة، وأنّ الجهات السّابقة جميعها تعمل على تغذيته، فالذّات البالون ينفخ فيها أكثر من نافخ حتى تصلّ إلى هذه الصّورة المريضة التي هي عليها. من جهة أخرى فإنّ ذلك السّلوك ليمثّل قمّة الانحطاط التي يمكن أن تصل إليها حياة البشر! فأنت حين لا تحترم رأي غيرك، وأنت حين تتدخّل في شؤون الناس من دون وجه حقّ إنسان متخلّف، ولا شيء غير ذلك.

ربّما كان الشّعور الطّاغي بالتّفوّق مؤشّراً على خواء عظيم يدمغ الحياة والنّاس. فثمّة فقر ومرض واضطهاد وقمع يتعرّض له الإنسان منذ نعومة أظفاره، ويكبر معه كلّما كبر، هذا بالإضافة إلى الشعور الحاد بالهزيمة المتغلغل في أعماق ذاته، كلّ ذلك يسقط على رأس الإنسان كالصاعقة، فتنتفض ذاته الجريحة، وتحاول أن تردم تلك الهوّة الواسعة فتفشل. لا شيء غير الصّراخ والسّباب، لا شيء غير العُصاب، وغير الغطرسة واحتقار الرأي الآخر.

بالمقابل فإنّ إشاعة التّعدّدية التي هي جوهر الحياة الديمقراطية، ربّما يساعد على التّخفيف من هول المشكلة التي نحن بصددها، وربّما كانت أولى الخطوات تتمثّل في الوصول إلى قانون انتخاب عصري يضمن في النهاية تشكيل برلمان حقيقي يعبّر عن آمال الناس وتطلّعاتهم في حياة كريمة.

[email protected]