بين تكميم الأفواه والسماح بفتحها


يظل الحق في حرية التعبير مفتاح المطالبة بسائر الحقوق الأخرى المدرجة ضمن منظومة حقوق الإنسان؛ وفي مقدمتها حرية الصحافة التي كفلتها غالبية الدساتير والمواثيق الدولية الملزمة أخلاقيا لجميع الدول الموقعة عليها، بتحفظات أو من دونها.اضافة اعلان
لكن على أرض الواقع، تنكمش حرية التعبير والرأي يوما بعد يوم في معظم الدول؛ تارة تحت بند الحرب على الإرهاب، وتارة باسم حماية الأمن الوطني والاستقرار، أو لحقن الفتن بمختلف أشكالها العرقية والمذهبية، وكذلك المس بهيبة الدولة وأجهزتها السيادية، أو التأثير سلبا على العملة المحلية والتشكيك بمتانة الاقتصاد... واللائحة تطول.
كل تلك العناوين ملّحة وحق لجميع سلطات الدول، لكن بشرط أن لا تستغل فزّاعة لتكميم أفواه الإعلاميين وسائر المجتمع لإخفاء سوء الإدارة أو الفساد، وتمرير مخطّطات السيطرة المستدامة على مقدرات الأوطان لشراء راحة بال الجالسين على مقاعد السلطة.
حرية التعبير والنشر/ البث -ضمن المحدّدات الأخلاقية والقانونية المتفق عليها- هي الحق الوحيد الذي يمكّن الشعوب من المطالبة بحكومات نزيهة، وتنظيم انتخابات حرة، وأجهزة قضائية مستقلة لمحاسبة المسؤولين الذين يتلقون معاشاتهم من دافعي الضرائب. وهذه الحرية مهمة أيضا في مراقبة أداء مؤسسات الدولة، وليس التغطية على مصالح فئة ضيقة. وهي مهمة لإخضاع مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد لها تداعيات سلبية وإيجابية، لحوار حر.
على أن حكومات العالم اليوم -بخاصة غير الديمقراطية منها- تنزع إلى مصادرة هذا الحق من خلال تصنيع قوانين معلّبة تتناقض مع المواثيق الدولية الملتزمة بها، كلما تخيّل لها وجود ضرورة لذلك بحجّة حماية المصالح الوطنية.
وفي مسعاها لخنق الأصوات الناقدة، تصنّع حكومات منظومة قوانين شكلها الخارجي عصري، لكن بمضمون عرفي، وتصاغ بطريقة مطاطية تسمح لها بتكييف قراراتها. وبموازاة ذلك، يهيمن الخمول على رأي عام لا يدرك، عموما، أهمية المطالبة بحقوقه أو التعبير عما ينغص راحته خشية دفع الثمن بأشكال متعددة.
في هذا السياق، لا بد أنكم تستذكرون رائعة جورج أورويل "مزرعة الحيوانات"، وكيف ارتد الحكام الجدد عن القناعات المشتركة لسكان المزرعة من خلال تطويع القوانين وتحريفها.
الصوت الحر المستقل هو أكثر ما يقلق من يحاول إخفاء تجاوزات، أو التصرف ضد مصلحة عامة الناس لحماية مصالحه الشخصية ومصالح الفئة الضيقة التي يمثلها. ومصادرة حرية الرأي والتعبير غدت القاعدة في غالبية الدول العربية، خصوصا بعد مرحلة انفتاح قصيرة أعقبت انطلاق مسلسل الانتفاضات والثورات العربية العام 2011. ثم سارعت السلطات الجديدة لإغلاق نوافذ التعبير باللعب على وتر الخوف الجمعي نتيجة تهلهل الاقتصادات في غالبية دول ما سمي "الربيع العربي"، وانزلاق سورية واليمن وليبيا في أتون حروب أهلية، واستمرار عدم الاستقرار السياسي في مصر.
بالطبع، أكثر من يدفع ضريبة تحدّي الوضع القائم هم النشطاء بأنواعهم، والفنانون والرسامون والمسرحيون ومؤلفو الكتب. يليهم الصحفيون الذين يسطّرون المسودة الأولى للتاريخ، وينخرطون في مناهضة سائر مظاهر القمع والفساد، ويكشفون أخطاء السلطات وتجاوزاتها.
اليوم، يتعرض هؤلاء المهنيون للعقاب في غالبية الدول العربية، ليس بتهمة كتابة الأكاذيب، وإنما بتهمة كتابة أي شيء أو التعبير عن الرأي بنص مكتوب أو مقروء، أو عبر مسرحية، بما لا يعكس قناعات فئة من المجتمع أو أصحاب الأصوات المرتفعة.
وبذلك يتعمق الخوف من الانتقاد وتعشعش ثقافة الإقصاء والتخوين. وهكذا يعلو صوت شيطنة الآخر المختلف، وتستحكم ثقافة الخوف والرعب بما يحول دون تمكن الغالبية من ممارسة حقّها في التعبير عن الرأي خشية التعرض لمحاسبة السلطة أو بطش المجتمع، الذي فرض في مناسبات عديدة "دكتاتورية الشارع"، وظهر أحيانا أكثر استبدادا وانغلاقا من الحكومات.
وسط هذه المعادلة المقلوبة، تصبح الحقيقة السلعة الأكثر خطرا لمن يحاول كشفها أو التعبير عنها، أو مخالفة التابوهات السائدة. وتبدأ عملية المساومات لفض الاشتباك؛ بعضها ينتهي على خير وبعضها الآخر في المحاكم أو خارج نطاق منظومة الدولة؛ اختفاء قسريا أو الإخفاء أو القتل.
لنتذكر أن خنق الإعلام ومصادرة الأصوات الناقدة لمصلحة العامة، يقضي على أي فرصة لبناء حوار مفتوح وعلني؛ وهو أساس أي عملية انتخابية حرة ونزيهة.
يبدو اليوم أن مسألة حقوق الإنسان وتوابعها، بما فيها حرية الرأي والتعبير والمعتقد، ستهيمن على ساحة المعارك اليومية المستمرة في منطقتنا، خصوصا في الفضاء الرقمي والعالم الافتراضي. جدران الصد تتهاوى تباعا وقلّة منا سيكونون مستعدين لتحمل تبعات تحدي هذا الواقع.
حكومات تخنق الأصوات الحرة، ومجتمعات أيضا تقف في الغالب ضد من يغرد خارج السرب، لأن عقلية القطيع هي السائدة أو سياسة سكّن تسلم. يتناسون أن الديمقراطية والحاكمية الراشدة وحرية الرأي والتعبير وسائر التوابع هي أساس الأمن والاستقرار.
لنبدأ التغيير من دواخلنا، امتثالا للآية الكريمة "... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ..." (الرعد، الآية 11). دعونا نتناقش بالتي هي أحسن ونتبادل الآراء والأفكار ونحترم المعتقدات المختلفة داخل المجتمع، الذي يشكّل أسرة كبيرة.
ألم يقل فيلسوف الحرية فولتير: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك"؟ فحرية التعبير والرأي تعني حماية رأي الأشخاص الذين نحبهم أو لا نحبهم. لأنه إذا لم يسمح لمواطن واحد بالتعبير عن رأيه، فلن يوجد أحد قادر على ذلك، وسيكون المجتمع كله مهددا.
إذن، ممارسة حرية الرأي والتعبير حق للجميع من دون استثناء، حتى لا يقع التسامح واحترام الآخر ضحية الجهل في المجتمعات كافة. وفي غيابه، سيكون هناك من يقرر مصيرك ويتحكم بما تفكر وتقرأ وتسمع ومن يرسم لك حياتك. وستسحق سائر الأفكار والأصوات. وستظل مخاطر تقويض السلم الأهلي قائمة ما لم تعِ السلطات تداعيات التجهيل والتعليم المؤدلج على المجتمعات. وكذلك انعكاسات قبضتها الحديدية على الشعوب واستعباد الناس بسوط القوانين المفصلة على مقاسها. فحين تصادر حرية الرأي والتعبير تعيش الشعوب العربية في ظلال حكومة واحدة وقاض واحد وماكنة "بروباغاندا" تغرد باسم السلطة. وسيسكن العديد السجون.
المخرج في تبادل الآراء وعكسها في وسائل الإعلام. وبالتالي يمكن أخذ الأفكار المتوافقة مع قناعات المتلقي/ة ولفظ الأخرى، وهو/ هي في قمة الوعي والإدراك بوجود تعددية وتنوع. هنا تتحول إلى إنسان بالغ وراشد، بعيدا عن التوجيه والتلقين كما الأطفال. فالحياة مليئة بأشياء تعجبنا ولا تعجبنا. لكنك تختار ما تريد وتترك الحق للآخرين لاختيار ما يريدون، بشرط عدم التعدي على أذواق الآخر وخصوصياته.
علينا كنشطاء ومفكرين وإعلاميين وفنانين وكتاب زوايا الإسهام في بناء مجتمع يتحاور مع بعضه بعضا، قادر على طرح الأفكار بحرية ومسؤولية وشفافية؛ مجتمع قوي متناغم متماسك، مطلع على مفاصله وتنوعه، كما يبدي الحرص ذاته على حياة الآخر وحقوقه ولا يخشى الاختلافات.