تأسيس الألم العراقيّ الراهن

ما يزال 14 تموز (يوليو) 1958، الذي تمرّ ذكراه الخمسون هذه الأيام، حدثاً محيّراً ومربكاً حقّاً. فإطباق عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف يومذاك على السلطة، وارتكاب مجزرة قصر الرحاب، وإعلان الجمهوريّة، تقع في مكان قابل للتأويلات، حمّال أوجه.

اضافة اعلان

فمن ناحية، كانت تلك المرّة الأولى في العراق حيث ينجح انتزاع الشرعيّة السياسيّة بقوّة العنف والدم، ويتحول الأمر هذا جزءاً من طريقة حياة معمّمة. ذاك ان محاولة ضبّاط "المربّع الذهبيّ" ورشيد عالي الكيلاني في 1941 لم يُكتب لها النجاح، بينما المحاولة الناجحة لبكر صدقي في 1936 لم تتحوّل جزءاً من الثقافة السياسيّة العراقيّة ولم تحفر عميقاً في الوعي والحياة العراقيّين. ومع انقلاب 1958 الذي وضع البلد على سكّة انقلابات متتالية استمرّت حتى 1968، وصلّبت إقحام المؤامرة في السياسة، بدأ تدمير متعاظم للانجازات التي كانت قد تراكمت في الحقبة الكولونياليّة. فقد أطيح البرلمان والحياة الدستوريّة، وفي مقابل تراجع التعليم وانطلاق هجرة الكفاءات العراقيّة الى الخارج، تزايد تدخل المحسوبيّات العسكريّة والحزبيّة في الادارة، عملاً بما يجري عادة في الأنظمة الراديكاليّة. ولأن الابتداء بالدم يرسم الطريق اللاحق بالدم نفسه، شهدت السلطة عمليّة تناحر وتصفيات بلغت ذروتها مع قمع المحاولة العسكريّة في الموصل عام 1959 التي عُرفت بحركة عبدالوهاب الشوّاف ووقف وراءها الجناح العروبيّ من ضباط 14 تموز. وبينما تربّع عبدالكريم قاسم حاكماً أوحد لبلاد الرافدين، أنهى الأكراد والعهد الجديد شهر العسل بينهما وابتدأ التمرّد في كردستان العراق.

ومن ناحية أخرى، كان انقلاب 1958 صدى لتحولات اجتماعيّة ومجتمعيّة لم تُبد الطبقة القديمة التي حكمت العراق منذ نشأته القدرة على استيعابها والتعامل معها. فضبّاط "الثورة العربيّة الكبرى" سريعاً ما تحوّلوا ملاّكي أراضٍ ساهين عن التفاوت الذي يتعمّق من حولهم في المناطق والطوائف. من هنا جسّد عبدالكريم قاسم، فضلاً عن ديكتاتوريّته، نزوعاً اصلاحيّاً مؤكّداً حيال الأطراف والجماعات المهمّشة تقليديّاً والمُفقرة. كما انه، في تمسّكه بالوطنيّة العراقيّة وصراعه مع الناصريّة المصريّة وميلها الابتلاعيّ والدمجيّ، قوّى لحمة المجتمع والدولة الواحدين، ولو برداء عسكريّ. والحال أن قاسم بدا مؤهلاً لمهمّة كتلك تبعاً لمواصفاته الأُسريّة والمذهبيّة، هو المولود لأب عربيّ سنيّ ولأم من الأكراد الفيليّين الشيعة.

هل كان يمكن أن يسلك العراق طريقاً تجتمع فيها حسنات الناحية الثانية دون سيّئات الناحية الأولى؟

قد لا يكون ما حصل في التاريخ حتميّاً مسبقاً. إلاّ أن المؤكّد ان حصول ما حصل يشي بصعوبات الاحتمالات الأخرى التي كانت ممكنة. فالإصلاحيّة والوطنيّة، في تجارب مجتمعاتنا، نادراً ما تلتقيان مع الديموقراطيّة، وغالباً ما تترافقان مع الاستبداد، أو أقلّه مع فائض في السلطويّة. وربّما كانت الحالة الأمثل التي لم يتّسع لها الواقع، الانطلاق من الانقلاب العسكريّ في عمليّة ممنهجة وممرحلة تترتّب عليها العودة التدريجيّة للحياة المدنيّة والانكفاء التدريجيّ للجيش إلى ثُكنه. فهذا، مثلاً، ما شهدته بلدان عدّة في أميركا اللاتينيّة وما عرفناه غير مرّة في تركيا، بحيث تُشذّب الحياة السياسيّة من غير أن تنطلق من عقالها الفوضى التي لا سيطرة لأحد عليها.

وسيناريو كهذا أشدّ صعوبة في المشرق العربيّ لسببين مترابطين، احدهما التفتّت المجتمعيّ وهشاشة النسيج الوطنيّ لمصلحة الروابط المذهبيّة والدينيّة والطائفيّة، والثاني ضعف الشرعيّة السياسيّة والدستوريّة وتقاليد التغيير السلميّ. حتّى مصر، المعروفة بنسيج وطنيّ متماسك نسبيّاً قياساً بسائر المشرق، لم يفلح انقلاب تموز 1952 في تصحيح حياتها السياسيّة وإرجاعها الى الحكم المدنيّ، على ما كان رأي محمّد نجيب الذي أطيح لصالح الديكتاتوريّة الناصريّة.

ولسنا نغالي إذا ما قلنا إن تلك الصعوبة واحد من الأسباب المهمّة في التأسيس للكارثة العراقيّة اللاحقة، أتجسّدت في فوضى الستينيات، أم في توتاليتاريّة السبعينيات، أم في حروب الثمانينيات والتسعينيات، وصولاً إلى الألم الراهن.