تاريخ ينبغي ألاّ يبتلعه العداء

يكاد يخال المرء، تحت وطأة التفكير بالصراع العربيّ- الإسرائيليّ، أن اليهود والعرب لم يولدوا إلاّ لكي يتبادلوا الحقد والعداء، وأن أحد هذين الشعبين يكره الآخر، والعكس بالعكس، منذ أن وُجد الشعبان. ووجهة النظر هذه، فضلاً عن تعصبّها أصدرَ عن متزمّتين يهود أم متزمّتين عرب، خاطئة ومضلّلة.

اضافة اعلان

فالنزاع على فلسطين لا ينبغي، مهما بلغت ضراوته، أن يدفع الى إشاحة النظر عن تجارب تاريخيّة كان فيها العرب المسلمون واليهود يتقاسمون الموقف والموقع نفسيهما. وما بدأ في 1948 ينبغي ألاّ ينسينا رؤية قرون من تاريخ سابق.

وإحدى تلك التجارب هي حكماً ما عُرف بالحروب الصليبيّة التي دامت قرابة القرنين. فمنذ حملتها الأولى، أطلقت تلك الحروب موجةً عارمةً من الحماسة الإيمانيّة في الغرب المسيحيّ ما لبثت ان شكّلت وقود التعبئة ضدّ الشرق المسلم. وقد وجدت الموجة المذكورة خصمها المباشر في اليهود الأوروبيّين الأقربين قبل أن تصطدم بالمسلمين الأبعدين. هكذا لم تقتصر استجابة "الرجال الفقراء"، وهم فلاّحون ومعدمون تبعوا بطرس الناسك في الحضّ على "تحرير بيت المقدس"، لدعوات البابا أوربان الثاني في 1095، على التطوع في الحملات العسكريّة، بل رافقها تِطوافهم مدنَ أوروبا وأريافها وهم يحرقون ويقتلون ويبدّدون من يلمسون فيهم شبهة عداء او مغايَرة.

وفي بلد كالنرويج تعالت أصوات رأى أصحابُها أن من العبث الذهاب إلى أمكنة نائية جداً في الشرق من أجل "مقاومة أعداء المسيح"، قاصدين المسلمين، بينما "قَتَلتُه"، أي اليهود، "مقيمون بين ظهرانينا". وبالفعل انتشرت مذابح كان الدين عنوانها العريض، فلم يُستثن منها الاّ اليهود الذين قبلوا العمادة المسيحيّة والتنصّر. لكن الذبح الذي طاول الكتلة اليهوديّة العريضة استمرّ على نطاق أوسع وأشمل في شمال فرنسا وبلاد الراين. وفي كلّ مكان مرّ فيه "الرجال الفقراء" حلّ القتل والنهب من دون أن يستطيع المسيحيّون المقيمون، أو بعض عقّال رجال الدين، حمايةَ جيرانهم ومعارفهم اليهود. فما بين 1096 ونهاية القرن الثاني عشر، مثلاً، حصلت ثلاث مذابح كانت كلّ واحدة منها تتجاوز سابقتَها عنفاً، نفّذها هؤلاء العاميّون الجوّالون وشبه المقتلعين ممن لا صلة لهم بمكان محدّد ولا بطبقة اجتماعيّة معيّنة.

وفي غضون ذلك، وفي حدود العام 1100، نشأ الغيتّو في أوروبا الغربيّة، وفي 1179 قضت الكنيسة في روما بحرمان كل مسيحيّ يجاور اليهود في السكن، من حقوقه. ثمّ في 1215 فرضت الكنيسة لباساً مميّزاً عليهم، بوشر معه تحويل اليهوديّ إلى منبوذ اجتماعيّ. وباستمرار، وفي موازاة الصراع مع المسلمين، دان الباباوات التلمودَ وشجبوا "العناد" اليهوديّ في رفض الاعتراف بيسوع المسيح مخلّصاً لهم، وكان هدف التشريع البابويّ في هذا المجال توكيد "النقص والعبوديّة الأبديّة" الكامنين في "جوهر" اليهوديّة الثابت.

وتكرّرت هذه الشراكة في إسبانيا، حيث انصبّ الغضب المسيحيّ، ومن بعده الطرد والتنصير على المسلمين واليهود سواء بسواء. وجدير بالذكر ان تلك التجربة هي التي فرزت ظاهرة "المارّانوز" (Marranos) وهم يهود سابقون كانوا يعيشون في اسبانيا والبرتغال قبل أن تُجبرهم محاكم التفتيش على التحوّل الى المسيحيّة. وقد حافظ الكثيرون من هؤلاء سرّاً على معتقدهم اليهوديّ، وحين يسنح الظرف، على العادات والطقوس أيضاً في ظلّ غطاء من الممارسة المسيحيّة. ومن ثمّ فقد راحوا يطوّرون موقفاً معقّداً نسبيّاً لا حيال المعتقد الدينيّ فحسب، بل حيال حريّة الاختيار في الإيمان تبعاً للضرورات. وكان من الأسئلة التي استوقفتهم ما إذا كان يستطيع المرء ان يغيّر معتقداته الدينيّة والاخلاقيّة عملاً برغبته وما قد تتطلّبه الحصافة او السياسات العامّة؟ ولم يتوقف المارّانوز عن طرح هذه الاسئلة الفلسفيّة، ولو اقتصرت على هذا الشقّ وحده من اهتمامات الفلسفة. وقد انبثق من التقليد هذا سبينوزا الذي عاش في هولندا بين 1632 و1671 متفرّعاً عن المارّانوز نظراً لانتمائه الى طائفة من اليهود البرتغاليّين الفارّين الى أمستردام. وإذ اعتبرته المراجع الدينيّة اليهوديّة مبالغاً في أسئلته وإجاباته، فقد طُرد، وهو في الرابعة والعشرين، من طائفته. وقد اشتُهر النصّ الذي قـضى بتحريمه الدينيّ، حيث انه "مُـنع وعُزل ولُعن وفُرض عليه الحرم"، واعـتبره التاريخ لاحقاً "أوّل يهوديّ علمانيّ".

والحال ان الظروف الخاصّة لإسبانيا القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي المواجهة القديمة مع المسلمين، والمواجهة الجديدة مع السود والهنود في أفريقيا والأميركتين، وحضور مسيحيّين جدد في إسبانيا بأعداد كبيرة جـداً وأدوار نشيطة جـداً، تضافرت جميعاً لتضيف، مع الزمن، مضموناً عِرقياً معادياً للجماعات المختلفة.

وعموماً ففي وقت يرقى إلى 1449 أعلن، فـي طليطلة (توليـدو)، عن أوّل تشريع يطال نقاء الدم (Estatuto de limpieza de sangre). وفي القرن الخامس عشر وما تلاه، تتابعت سلسلة تشريعات تدافع عن هذا النقاء المزعوم هي التي "برّرت" في ما بعد طرد المسلمين واليهود. وكما هو معروف جيّداً، لجأ كثيرون من هؤلاء الأخيرين الى السلطنة العثمانيّة التي استقبلتهم وأتاحت لهم العيش الآمن، على عكس الحال في أوروبا يومذاك، وإن لم تتح لهم المساواة في المواطنيّة بسبب غرابة هذا المفهوم عن الثقافة الإسلاميّة العثمانيّة وتمييزها بين المسلمين و"أهل الذمّة". ومن ناحيتهم، حمل اليهود المبعدون عن أوروبا المهارات التي كانوا يجيدونها معهم الى "بلاد المسلمين"، وكانت الطباعة في رأس هذه المهارات.

هكذا أضافت تجارب الصليبيّين وإسبانيا والسلطنة العثمانيّة أسماء ومعالم جديدة الى تاريخ مشترك رصّعه السموأل في الجاهليّة، وابن ميمون (ميمونيديس) في العصر العباسيّ، واليهود العراقيّون الذين جدّدوا موسيقى بلاد الرافدين في العصر الحديث.

وهذا جميعاً مما لا يجوز ان يبتلعه العداء في لحظة تاريخيّة معيّنة.

كاتب لبناني مقيم في لندن