ثقافة المقاومة

 

تَجذَّرَ مصطلح ثقافة المقاومة، حتى أصبح يمثّل اتّجاهاً واضح المعالم في السّنوات الأخيرة، وذلك مقابل مصطلح ثقافة الهزيمة أو ثقافة الاستسلام الذي ساد زمناً طويلاً في الحياة العربية. وعلى الرّغم ممّا يمكن أن يوحي به هذا المصطلح (ثقافة المقاومة) من عناصر المجابهة والصّمود والتّصدّي، إلاّ أنّه ظلّ مصطلحاً مختَزَلاً ومحصوراً في جانب معيّن من الحياة دون الجوانب الأخرى، ونقصد به ذلك الجانب الذي يتّصل بالصّراع العربي الصّهيوني تحديداً.

اضافة اعلان

مرّت ثقافة المقاومة بمجموعة من المحطّات البارزة التي عملت على تطويرها، ومن ثمّ تكريسها كعقيدة وحيدة جديرة بالوقوف أمام مخطّطات الأعداء، والانتصار عليهم. لقد ولدت تلك الثقافة في أواخر السّتّينيّات من القرن العشرين من رحم المقاومة المسلّحة للشعب الفلسطيني، ثمّ ما لبثت أن تعمّقت في الوجدان الجماهيري مع تفجّر الانتفاضتين الفلسطينيّتين الأولى والثّانية. ومع الانتصارات المتتالية التي أنجزتها المقاومة اللبنانية، بتحرير الجنوب أوّلاً ثمّ بالتّصدّي البطولي لآلة الحرب الصّهيونية في معارك تمّوز عام 2006 ترسّخت ثقافة المقاومة، وأصبحت تحظى بتعاطف فئات شعبية واسعة في الشّارع العربي. الآن وفي ظلّ الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة في وجه النّازيين الجدد امتدّت ثقافة المقاومة لتشمل ليس فقط فلسطين وما حولها وإنّما الأرض العربية من المحيط إلى الخليج، هذا بالإضافة إلى شعوب أخرى تخوض معاركها ضدّ العدوّ الواحد الإمبريالي وربيبته الدّميمة (إسرائيل). ظاهرة يمكن أن نطلق عليها اسم (الثورة الأمميّة الجديدة) انطلقت شرارتها من غزّة واشتعلت نيرانها في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة. وكأنّ العالم كان ينتظر هذه اللحظة على أحرّ من الجمر فقد اندلعت في العواصم العربية والعالمية تلك المظاهرات المليونية والاضطرابات والاحتجاجات، ومن خلالها تمّت إعادة الاعتبار لفلسطين ليس من باب كونها أرضاً محتلّة، ولكن باعتبارها هويّة إنسانيّة شاملة، ورمزاً للصّراع الذي تخوضه البشريّة ضدّ أعدائها التّاريخيين.

على مستوى الكتابة الإبداعيّة والأشكال الفنيّة الأخرى نجد تمثّلات ثقافة المقاومة قائمة في محطّتين رئيستين: المحطّة الأولى وتتحدّد ببروز ظاهرة شعر المقاومة الفلسطينية أواخر السّتينيّات، تلك الظّاهرة التي دفعت إلى الواجهة الأدبية العربية بمجموعة من الأسماء الشعرية المهمّة أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد. المحطّة الثانية وتتمثّل بولادة شعر الانتفاضة، الذي لم يكن ظاهرة شعرية فلسطينية بقدر ما كان ظاهرة شعرية عربية. في المحطّتين السابقتين نجد أن النماذج الشعرية المطروحة باستثناءات قليلة لم تكن لتقدّم الحالة النّضالية الفلسطينية إلاّ من باب الشّعار السّياسي والصّراخ. وبدل أن يحاول أصحابها السّهر على صحّة تلك النصوص ونقل فلسطين إلى العالم من خلال الفنّ لجأوا إلى تسوّل القارئ عبر كتابة مسطّحة تكتفي بالرّكض واللهاث وراء الحدث السياسي. كان من المفترض استيعاب تحوّلات القيامة الفلسطينية عن طريق إبداع نصوص باذخة تفيض بالجمال، فنحن دون ذلك دون الانتباه لشروط الفن نخذل القضيّة التي نحن بصددها، ألم يكتب (برخت) مرّةً: "إنّ الذي يكتب أدباً رديئاً يخون الجماهير"!!

ليست خيانة الجماهير أمراً متعلّقاً بالكتابة الرّديئة فقط، وإنّما بكلّ ما يمسخ الرّوح الإنسانية ويحوّلها إلى مستودع للجهل والعدميّة والنّفاق والقبح. بهذا المعيار تغدو ثقافة المقاومة ثقافة الحياة الشاملة التي تعنى بالإنسان في الجوانب كافة، وليس فقط الجانب النّضالي المتمثّل بخوض المعارك. إنّ تدريب الروح الإنسانية على معاني الحبّ والحرية والاحتفال بالجمال يصبّ هو الآخر في قلب ثقافة المقاومة، وينقل هذه الثقافة من مستواها الأوّلي البسيط إلى مستواها الآخر العميق والأرحب.

وهكذا فلم تكن صدفة أن تشيع ثقافة المقاومة في العصر الحديث بكلّ ما فيها من تجلّيات، على يديّ شعبين حضاريّين شقيقين هما الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني.

[email protected]