جسد ضرير

 

تثير مسألة تهدّم الجسد أسفاً وألماً بالغين، خصوصاً لدى سدنة الجمال وحرّاسه! فمثل هذا الجسد الذي كان فيما مضى يضجّ بالعذوبة، ويترنّح كالسّيف في هبوبه المفاجئ فيحلج رؤوس المارّة، أصبح خائر القوى يجرّ قدميه في الطّريق، ويمشي متثاقلاً بعينين ذابلتين وشعر مشعّث!

اضافة اعلان

في اليفاعة، تتنزّل الأنوثة على الجسد بشكلٍ مباغت مثل أُعطية سماوية، وما هي إلا فترة وجيزة حتى ينتقل الجسد إلى طورٍ آخر مختلف، إنّه طور الأنوثة الفاتن المعرّش. الطّور الذي يضطرب فيه موج الجسد، وتنضج على أغصانه تلك الثّمار الباذخة. غير أنّ الجسد وبسبب هذه التّحوّلات السّريعة التي تحدث، وبسبب غياب أيّة ثقافة حقيقية بشأن هذه التّحوّلات، يمكن أن يسبِّب مشكلة لصاحبته التي تتنقّل به على ساقيها وتحمله كما لو كانت تحمل كيساً مليئاً بأشياء مجهولة! إنّها لا تعرفه على حقيقته -في الواقع هي تتعرّض لسياسة تقوم على فكرة إقصائها عن جسدها- ولذلك فهي لا تعرف كيف تتعامل معه. في حالات كثيرة تستسلم المرأة لشروط القمع السّائدة فتتحوّل إلى أداة قمع أخرى لجسدها، ولذلك فهي تلجأ باستمرار إلى عزله والتّخلّص منه كما لو كان يشكّل لها فضيحة من نوع ما! سنوات قليلة تمرّ بعد ذلك على المرأة لينتهي بها الأمر إلى ما يشبه الورطة الوجوديّة، حيث تبدأ تلك الأنوثة بالانحسار. في هذا الطّور يسيطر على المرأة إحساس عارم بالنّدم، وربّما كان ذلك متأتّياً من المعرفة المتأخّرة التي كوّنتها عن جسدها، والتي جاءت في الوقت الضّائع.

قلّة من النّساء تفادين الكارثة، وهذا النّفر في الغالب ينتمي إلى ذلك الطّراز المثقّف، الذي أخذ على عاتقه السّير عكس التّيّار، وأحدث تغييرات ملموسة في علاقة المرأة بجسدها. في هذا المجال يمكن الحديث عن قسم من النّساء المثقّفات اللواتي قدن التّغيير، وعلى الرغم من جهودهنّ العظيمة التي بذلنها، إلا أنّهنّ وقعن أسيرات للتّناقض القائم بين وضع المرأة العربية ووضع المرأة الغربية. قسم آخر تعامل مع الجسد فيما يشبه ردّة الفعل ممّا هو قائم، فتطرّف في أفكاره، ومثل هذه التّوصيفات تنطبق على جزء غير يسير من حركات تحرّر المرأة، التي قلّدت ما قامت به حركات تحرّر المرأة في الغرب. قسم ثالث اشتبه عليه الخصم، أو الطّرف الذي يخوض النّضال ضدّه، فشنّ حروبه باتّجاه الرّجل بالمطلق، وقد نسيت صاحبات وجهة النّظر هذه أنّ المرأة ينبغي أن تخوض الصّراع جنباً إلى جنب مع الرّجل باعتباره يعاني الاضطهاد من السّلطات الغاشمة إيّاها التي تضطهد المرأة.

منذ سنوات الاستقلال قطعت المرأة العربية أشواطاً كبيرة على طريق التّطوّر، ولكنّها على صعيد علاقتها مع جسدها ظلّت تراوح في المكان نفسه تقريباً، لقد أصبح لدينا مهندسات وطبيبات ومعلّمات، ولكنّ كلّ ذلك لم يفلح في تغيير الدّاخل المترمّد المكلوم المخرّب! لقد بقيت حدود الجسد بمثابة منطقة حمراء يُمنَع على المرأة اجتيازُها، وقد ترتّب على ذلك نشوء ظاهرة الجسد الأمّي أو الجسد الضّرير.

في ظلّ هذه الأمّيّة يصبح الجسد فائضاً عن حاجة المرأة. إنّها حين تغادر بيتها مثلاً فإنّها تمشي من دونه، وعلى الأغلب تكون قد تركته في البيت!

أين كلّ هذه النّماذج المعذّبة التي تصادفنا، من (كاترين الحلوة) إحدى أهمّ الشّخصيّات النّسائيّة التي رسمها الروائي الكبير حنّا مينة! حيث تبقى كاترين طوال ثلاثيّته الشّهيرة تتمتّع بذلك الجسد الأسطوري الفاتك المدمّر، فتغوي البحّار صالح حزّوم الذي يشيخ بعد ذلك ويموت، ثمّ لا تلبث أن تغوي ابنه من بعده سعيد حزّوم الذي يعشقها بجنون ويفقد صوابه.

[email protected]