حياة على الورق

في حياة جيلي أفكّر، وحياة الأجيال التالية. أفكّر في حياة النّاس السائرين في درب الآلام، وأحلامهم الكبيرة التي ارتطمت بصخرة اليأس. أفكّر في فلسطينهم العظيمة وهي تُستَلّ من لحمهم شبراً شبراً من دون أن يهتزّ لهذا العالم الذي يراقبهم جفن. أفكّر في الوحدة العربية التي جرى تعليقها آخر الأمر كالمعطف القديم في متحف التاريخ من دون أن ينتبه إليها أحد.

اضافة اعلان

أفكّر في اللامكان الذي وصلنا إليه في هذه البريّة المأهولة بالضّواري. قديماً كنّا نشرّق إذا أصابتنا نكبة، واليوم احتلوا شرق الأمة واستوطنوا فيه، فلم يعد أمامنا من مكان لنذهب إليه.

ما أزال أتذكّر بمرارة، ذلك الكلام الجارح الذي كان يقوله لنا المعلمون أوائل الستينيات من القرن الماضي: لقد فشل جيلنا، وضاعت فلسطين منّا، والبركة فيكم فأنتم جيل المستقبل، أنتم جيل الوحدة والتّحرير! يا إلهي زمن طويل مرّ على ذلك الكلام، واليوم نجدنا وقد أصبحنا بدورنا نبث الكلام نفسه لأبنائنا وأحفادنا! يا إلهي ما الذي عملناه؟ ما الذي أنجزته أيدينا منذ ذلك الوقت حتى أيّامنا الحاضرة؟

أتذكّر أيضاً مؤنس الرزاز الذي تمرّ ذكرى وفاته الثامنة هذه الأيام، مؤنس الذي امتلأ ضجراً، وأرعبته النهايات المفزعة التي وصلت إليها حال الأمة، فتقمّص دور إحدى شخصيّات رواياته (اعترافات كاتم صوت)، ووقع في الغيبوبة نفسها التي وقعت فيها تلك الشخصية. نصف قرن، تصوّر أنني بلغت نصف قرن يا يوسف!! قال لي الجميل مؤنس قبل سنة من وفاته، وأضاف بما يشبه السخرية: ذلك كثير على الواحد منّا أن يمتلئ معطفه بكل هذه الأعوام الخربة، ثمّ ما الفرق بين أن يعيش الشخص خمسين عاماً أو مائة عام!! قبل أربعين عاماً التقيت بالشعر. مصادفة غريبة أسقطتني في فخاخ ذلك السّحر المنسوج بخيوط الكلمات. قلتُ أرمم بالكتابة جسدي الضئيل الذي تحطّم بفعل الحرب، وأفتح في جدار المنفى كُوّةً أنفذ من خلالها إلى البلاد التي سرقها المحتلون. من يومها انكببتُ على الكتابة انكباب مؤمن على العبادة، وأصبحت حياتي كلّها على الورق.

أيّها الشعر، أيها السيد المتغطرس كطاغية، العذب مثل نصل ضوء، المرح كخديعة، اسمح لي الآن بعد كل هذا الخراب الذي حدث أن أناديك وأسألك: ماذا فعلتَ بي؟ ماذا فعلت لأجلي؟

كل صباح أصحو من النوم على وقع مجزرة جديدة، وعلى مشهد الدّم. كل صباح يكبر الصليب الذي أحمله، ويتهدّل فوق جبهتي تاج الشوك. ها أنا ذا أجرجر قدميّ في بريّة الخمسين، وأضرب في الشوارع على غير هدى.

...عربة الخمسين تهدر فيما أنا جالس في ركنها مشتّت الأفكار، أفكّر بمصيري ومصير هذه السلالة الرجيمة من الراكبين معي. في الخارج أبصر الحرائق وهي تشبّ في كلّ مكان، فيما الزّوابع تمرّ نائحةً على الجانبين وترج بأظلافها الأرض. تحت قوس الغروب تتدحرج العربة. بين يدي كتاب مهترئ ـ من أين جاء إليّ؟ ـ أقلّب أوراقه فأقرأ بعض العبارات التي كنت كتبتها فيه ـ ذلك الكتاب أهو كتاب الشعر أم كتاب حياتي التي احترقت؟ ـ صدفة ألتفتُ بطرف عيني ناحية جاري فتصعقني المفاجأة، يا إلهي كم يشبهني! حرّك جاري وجهه قليلاً وحدّجني بالنظرة المريبة إياها، وكان بين يديه الكتاب إيّاه فارتبكتُ وارتبك. الذي أرعبني أكثر أنّ ركّاب الحافلة كانوا جميعهم يشبهونني. في لحظة اختفت الحافلة، واختفى الركاب، ووجدت نفسي أنتظر على الرصيف. كان ثمّة عربة قد توقّفت بالقرب منّي، ويدٌ تلوّح لي من وراء الزجاج، وتدعوني إلى الدخول، دخلتُ، أنا قصيدتكَ الجديدة قالت...

[email protected]