طَيَران فوقَ المدينة

مثل ورقة شجرة في الخريف، خفيفة وتتناهبها الرّيح، قلتُ لها: هكذا صارَ قلبي.

فيما مضى كان قلبي جرساً في يد الرّغبة التي تهزّه، فتنحدر الأيائل من سفوح الغابة قطعاناً قطعاناً، إلى حيث الماء الذي يترقرق مثل مناديل من الكريستال، فيما تجحظ وراء الأشجار عين الذّئب، وتُشِعُّ مثل نجمةٍ مسمومة. فجأةً يندلع العواءُ في كلّ مكان، ومن مكمنه يتقدّم الذّئب، ويمرق مثل سهمٍ لينغرز في عنق الغابة.

اضافة اعلان

حبّنا باطل يا امرأة.

لو أنّنا لم نعقد قراننا بعد وقت قصير من لقائنا الأوّل، لما تسلّلت الصّحراء بهذه السّرعة إلى حياتنا، وَوَصَلَتْ حتى حدود السّرير.

مريضٌ بكِ. مريضٌ برقصة الطّاووس، وريشه الذي يهيج كالسّهام في ليالي السّهر والموسيقى. مريضٌ بقفير العسل الذي يترنّح في الطريق، ويبعث البلبلة في عيون المارّة. مريضٌ بالصّباح الذي يتسلّق جدار البيت بمهارة لصّ، ليطلّ عليكِ من النافذة، ويُحيّيكِ. مريضٌ بالجبل الذي طاف الأرض وراءكِ، وحين جلستِ في المقهى لتستريحي قليلاً، همد كالهرّ وأقعى قرب قدميكِ. مريضٌ بي، لقد بحثتُ طويلاً عن مديحٍ يليق بكِ وما وجدتُ.

أوقفوا هذا الصّرير الذي ينبعث من العربة.

العربة التي ما تزال تجرّها البغال الدّميمة إيّاها.

البغال الدّميمة التي تمشي بها أربعاً وعشرين ساعة كلّ يوم دون توقّف، ويسوطها اليانكي الأبيض، ذو الفم المائل قليلاً من جهة اليسار

مثل سفينة توشك على الغرق.

أوقفوا هذا الصّرير الذي ينبعث من هذه العربة المتداعية التي اسمها الحياة.

محبط ويائس أنا، عشتُ الحياة كما يعيشها اللصّ المطارَدُ المذعور. تنقّلتُ من مدينةٍ إلى أخرى كما يتنقّل السّجين بين الزّنازين. أمشي رهوجةً في الأرض، وكاهلي ينوء بالهزائم. لم أخض حرباً واحدةً في حياتي، غير أنّهم في كلّ موقعة يقهقهون قائلين: يا أخي لقد أزعجتنا، ما الذي سنفعله معك؟ نرجوك على وجه السّرعة، أن تأخذ نصيبك من الغنائم، نقصد الهزائم وأن تغرب عن وجوهنا.

لم أفرغ من مجابهة الكوارث في يوم من الأيّام،

لأجرّب الحبّ، ولذا فأنا لا أعرف ما الحبّ، لا أعرف شكله، ولم أسمع صوته.

... مرّةً على مفرقٍ غامض فاجأتنا سحابة من الفراشات الملوّنة، كدنا نُجَنّ من فرط الغبطة ونحنُ نركض بين الفراش، وفجأة خفّ جسدي، رويداً رويداً صرت أطير، لقد أحسستُ أنني أصبحتُ فراشة كبيرة. نظرتُ باتّجاهكِ فرأيتكِ تطيرين أيضاً. يا لكِ من فراشة ساحرة وعظيمة.. هتفتُ. استيقظتُ من إغفاءتي السّريعة على صوتكِ الهامس وأنتِ تقولين: انظر ما أجملها تلك الفراشة التي على ذراعك!!

فيما أفكّر بكِ الآن أفكّر في نساء كثيرات، أفكّر في ملكات جمال ووصيفات، أفكّر في عازفات موسيقى ومغنّيات ونادلات مقاهٍ ومزارعات ونساء ذئبات يفخّخن الطّريق بالمكائد، ونساء متبتّلات يقطر النّور من أصابعهنّ، فأنتِ مبثوثةٌ فيهنّ جميعاً. ما من امرأةٍ إلا وفيها أثرٌ منكِ، ولو بقيت هنالك امرأة واحدة بعيدة عنّي سيظلّ حُبّي لكِ ناقصاً.

لا بدّ من عصيان ما قلتُ لها، قالت: كيف؟ قلتُ كأن نتعانق في الشارع العامّ! أو كأن ننام في الحدائق العامّة، أو نصعد بنايةً عاليةً في المدينة. قالت بغضب: لا أحبّ الانتحار. قلت مازحاً: ليس من أجل الانتحار، ولكن من أجل أن نجرّب مرّةً الطّيران فوق المدينة.

[email protected]