على سفح هاوية

في الخامس عشر من أيّار، أفتح عينيّ على اتّساعمها وأتفقّد جسدي، ثمّة أكمات من الأشجار والزهور البرّيّة، طرق متربة، وأطفال يملأون الوعر، قرويّات بأثوابهنّ المطرّزة، وجرارهنّ يترنّحن كالسّيوف، فضاء مسقوف بريش العصافير، بيوت مقبّبة، ترتجف مبلّلة بالنّدى مثل أثداء عظيمة بين يديّ البعل، وليل فضّيٌّ يسيل على العتبات والسّاهرين، ومن جهة ما فيه، يتقدّم أصبع رهيف من القصب، لحظات ويدوّي الصّوت، كاسحاً على أرض البيدر، كما لو كان حشد أحصنة أسطوريّة يصهل، أو صواعق عظيمة تضرب بأظلافها الصّخر. أحدّق جيّداً: كلّ شيء على حاله ظلّ قائماً فيّ، السلاحف بدروعها الصّغيرة، البلابل التي تنقّط من أجنحتها الموسيقى، والأفاعي العجوز، التي تذرع الحقول كالأمّهات، حتى النّمل، أراه ما يزال منهمكاً في نقل بقايا قمح الحصاد، وينتشر كالنّمش على صفحة خدّي. كلّ شيء ما يزال قائماً فيّ على حاله، إلا أنا. أين أنا؟ أسأل.

في لحظةٍ ما يعتم جسدي، ويتّخذ شكل سحابة حمراء قانية من الدّم تطير باتّجاه الغرب، وتعبر الحدود.

في الخامس عشر من أيّار، أنا على سفح هاوية تترجرج، وغير مسموح لي سوى أن أعبر بمعجزة!! أعبر إلى أين؟؟ والطّريق أمامي محض سراب مخاتل يتلوّى ومنزلقات. في كلّ منحدر يكمنون لي، أعداء غاشمون من مختلف الأعراق واللغات، وحديدٌ مترفٌ يصلصل ويتهامر. في كلّ محطّة يهوون عليّ بسواطيرهم، ويحتزّون قطعة من جسدي. فقدت رأسي مرّةً في معركة غير متكافئة، قلبي استلّوه منّي وجفّفوه، ثمّ باعوه للسيّاح كي يأخذوه معهم كتذكار من (الأرض المقدّسة)، ويملأوه بالنّقود، أمّا أصابعي التي ظلّت ترعى الطّيور وتهدهد الورد في الحدائق، أصابعي التي كتبت بها أجمل القصائد، وحرضتُ بها خصور النّساء على الرّقص، أصابعي تلك بتروها، ثمّ قدّموها على طبق فضّي ذات مساء مخادع، غمسوها بالحبر وصاحوا بأعلى صوتهم: وقّع.

أوقّع! على ماذا أوقّع؟

رأسي مرجل نار تغلي فيها الحدقات.

رأسي سحابةٌ يهطل منها الحبق وزهور الرّمّان.

على مرأى من الحشد الذي جاء ليحتفل بلحظة الختام، أستلّ ضلعاً من صدري وأكتب: لن تمرّوا أبداً أيها الأوغاد.

في الخامس عشر من أيّار، مصادفة مذهلة جمعتني مع حنظلة، حنظلة ناجي العلي، تعرفونه، حنظلة الذي ظلّ يحرس الحلم بعد استشهاد معلّمه. في زقاق مهمل من أحد المخيّمات التقيته، كان عائداً ذات مساء من المدرسة، حين رأيته صفّق قلبي له، وطرت من الفرح وعانقته. ولكنّنا ما كدنا نلتقي، حتى اجتمعوا علينا. ذلك اللقاء لم يكن سوى كمين معدّ لنا، فجأة أشهر علينا الجنود بنادقهم، فجأة امتلأ المكان بالفقمات! يا إلهي كم كان ناجي ثاقب الرؤيا! فقد كشّر الحشد الغاشم عن أنيابه، وصار الكلّ يرطن باللهجة إيّاها، التي تمتلئ فيها الخاءات. بسرعة ضممت حنظلة إلى صدري، وحاولت أن أخبّئه عن العيون، لكنّ حنظلة قفز وصاح بصوته العالي صيحةً جعلت الحشد يجفل، وما هي إلا لحظات وإذا بجمع عظيم من الحناظلة، يملأون المكان، لقد ظهروا على حين غرّة، وسدّوا الطرقات، كانوا هناك أيضاً على سطوح البيوت، وفي الشبابيك والأبواب، كانوا على أغصان الأشجار وفي الهواء، ومثل مطر غزير انهمرت حجارتهم.

اضافة اعلان

في الخامس عشر من أيّار، استيقظ قلبي على طفلة رقيقة سمّيتها ذات لقاء بعيد حيفا، همست في أذني قبل فترة، مهمّتكَ الوحيدة أن تكتب شعراً جميلاً، وهذا يكفي.