فرص ضاعت لتحسين صورة العرب

    في السنوات الاخيرة غدت الصورة وتحسينها جزءا اساسيا من كل واقع، ومن كل سياسة. وقد ظهر بين كبار الكتّاب والمثقفين الغربيين من يعطي الاولوية للصورة على الواقع، وللافتراضي على الواقعي. وتحول الاهتمام بالصورة وتحسينها الى بند في الموازنات السياسية للدول، والى "بيزنس" تجاري رابح للشركات، حتى ان العدوى انتقلت الى نظام كالنظام السوري، عسكري وايديولوجي بطبيعته، وبات هذا الاخير، بدوره، مهتما بتحسين صورته في الولايات المتحدة، عبر اختصاصيين في المجال المذكور. لكن اذا صح ان العطّار لا يصلح ما افسده الدهر، فالصورة مهما عظم شأنها، لا تستطيع اصلاح ما افسده الواقع، وهو ما يعني تاليا، ان الصورة ينبغي لها ان تستند إلى شيء ملموس، كي تنجح في التحسين والتزويق. اذ ما الذي يمكن فعله في ظل حكم عرفي يعيش في ظله ملايين السوريين منذ عام 1963، معطوفا على اقتصاد بائس، وتعليم رديء، وحكم حزب واحد؟

اضافة اعلان

هذه، في واقع الحال، ليست مشكلة سورية حصرا. فإلى حد بعيد، يمكن القول ان العرب عموما يعانون من ازمة صورتهم في الغرب، لا سيما في الولايات المتحدة، التي غدت المرآة التي تقاس الصورة عليها. وقد جاءت مأساة 11 ايلول لتزيد الطين بلات عدة، لا بلة واحدة. فشكلت المناسبة السوداء تلك نفقا تسلل منه العنصريون وكارهو العرب والاسلام، على انواعهم، كي يمعنوا في تشويه صورتنا، من غير استثناء ولا استدراك.

     بيد ان ذلك لا يغير في واقع ان الصورة هذه رديئة، مرسومة بألوان تعوزها النصاعة. وهذه، والحق يقال، حال عرفتها شعوب كثيرة قبل العرب، او في موازاتهم. ذاك ان التنميط والتواريخ، ومعظمها نزاعي، تضافرت لتربط الايطاليين بإيثار الخفة على الجد، والالمان بالجمود والتسلط والعسكرة، والانكليز بالكذب والانتهازية، والاميركيين بطيبة هي الى البلاهة اقرب، واليابانيين باستبداد يمارسه الامبراطور والجيش من دون انقطاع، وهكذا دواليك. وقد نجحت الشعوب هذه في تغيير صورتها المذكورة، إذ اثبتت بالواقع الحي انها شيء آخر. غير ان ما تحقق في التجارب اعلاه لم يتحقق عربيا!

     حقيقة الامر ان عناصر خمسة توافرت، كان في وسعها، فيما لو أُحسن استخدامها، تعديل الصورة. فمنذ 1973-74، قفزت اسعار النفط اربعة اضعاف ما كانت عليه من قبل، ما افضى الى مراكمة لفوائض مالية بدد معظمها في الحروب، الاهلي منها والاقليمي، والتسلح والانفاق غير المنتج على انواعه.

     ومع انفجار ظاهرة العمالة العربية المهاجرة الى الغرب، والتي شرعت تتصاعد تدريجا منذ الستينيات، كان يمكن السهر على تنويع مهارات المهاجرين، بما تتطلبه اقتصادات البلدان المستوردة لليد العاملة، وهو ما لم يحصل، بفعل ضعف التخطيط والاعداد. كذلك، كان يمكن بذل بعض الجهد في تهيئة المهاجرين، تعليما وتثقيفا، للعيش في مجتمعات تعددية وعلمانية، وهو ايضا ما لم يحصل.

     وانخرط العرب في الانفجار الاعلامي، فهاجرت بعض صحفهم الى الغرب، واقاموا فيه بعض محطاتهم التلفزيونية قبل الانكفاء التدريجي. وبنتيجة هذا التطور، انتقلت اعداد ضخمة من الصحافيين والكتّاب والمثقفين، من سائر البلدان العربية، الى بلدان اوروبا. واذا تذكرنا ان "عصر النهضة" الشهير انما ابتدأ بزيارة رفاعة الطهطاوي، على رأس بعثة محمد علي الى اوروبا، امكننا ادراك أن اية نهضة اكبر واعمق كان يمكن ان يطلقها هذا الاحتكاك الثقافي الواسع، الذي ابتدأ قبل ربع قرن. مع هذا، اكتفى بعضنا بأن عاد من هناك بخفي حنين، فيما مكث بعضنا هناك مكث الايتام على مآدب اللئام!

     واتيح لنا مبدئيا، من خلال المدن التي هاجرنا اليها، والتي غزتها افكار التعددية اللغوية والدينية والثقافية، ان نقدم انفسنا تعدديين، عربا ومسلمين، بل ايضا اكرادا وشركس وامازيغ ومسيحيين واقباطا ويهودا وملاحدة، لكن هذا بدوره حال دونه اصرارنا على صورة مانعة قاطعة، لا يقاربها الاختلاف ولا يدانيها التباين. وفي نفورنا من التعدد، اسأنا استقبال التكريم الذي حظي به المبدعون العرب، كنجيب محفوظ واحمد زويل وامين معلوف والطاهر بن جلون وغيرهم، فشككنا باتجاهاتهم السياسية، واتهمناهم بممالأة الغرب، وبالكتابة استجابة لأذواق الغربيين وكانت مكافأتنا لمحفوظ تحديدا تعريضه للسكين على يد شاب مصري "اصيل"!

       وكان لبنان النموذج الوحيد في المشرق العربي الذي يمكن تقديمه كمكان معتدل للتعايش بين المسلمين والمسيحيين، وكعينة مقبولة لتطبيق الديمقراطية البرلمانية عربيا. ولبنان هذا كان في وسعه، بالتالي، توفير البديل المقنع عن النموذج الاسرائيلي، غير ان ذاك البلد تعرض للتدمير، كما هو معروف، وكان ما كان.

       وعلى العموم، حالفنا الفشل في كسر عنصري الصورة الشائعة عن العربي والمسلم: كونه ثريا، متعطلا، متبطلا، عثر بين ليلة وضحاها على كنز نفطي، وكونه سافك دم، ارهابيا يخطف طائرات او بشرا، ولا يتردد في قتل نفسه وقتل الآخرين، كرها للحياة وحبا للكراهية. وبالنتيجة، بدت الانتصارات الوحيدة التي تحققت لنا على غرار الاختراق الذي احدثه المطبخان اللبناني والمغربي في اوروبا، او الالحان التي ادخلها الى الموسيقى العالمية مغنو "الراي" الجزائري، او الدور الذي ارتبط بشخص لاعب كرة القدم زين الدين زيدان في فرنسا؛ اما اختراقات جزئية، واما ضعيفة الترجمة الى موقف سياسي.

     لكن الادارة الاميركية الحالية، التي اصرت وتصر على تحسين صورتها في العالم العربي، من دون ان تقدم على خطوة جدية وصائبة واحدة، مكتفية بالوعظ الحميد، انما تقلد بعض اسوأ ما يأتيه العرب. وهنا ايضا تعطل المواقف الاميركية في العراق وفلسطين، قدرة النقاد العرب على ممارسة النقد لأوضاع شعوبهم وبلدانهم.