قضية أبعد من سيد القمني

  منذ قرابة شهر، تعرضت الحياة الثقافية، المصرية والعربية، لامتحان لم تحظ دلالاته بما تستحق من اهتمام وعناية. فالكاتب المصري سيد القمني، المهتم بقراءة التراث الاسلامي على نحو يغاير القراءة الاصولية، اعلن ما يشبه الاعتذار عن مواقفه النقدية السابقة، وتوقفه عن الكتابة. وقد جاء قراره هذا بنتيجة تهديد بالقتل، تعرض له على ايدي احدى جماعات العنف الاصولي.

اضافة اعلان

    مر الخبر مرور الكرام على الحياة الثقافية والسياسية في العالم العربي، وكان هذا بذاته فضيحة اخرى تضم الى سجل الفضائح التي نعيشها. لكن المشككين تجاوزوا طعنهم بالرواية المذكورة التي ترفض تصديق رواية التهديد، ذاهبين الى التشكيك بجدارة القمني ككاتب ومثقف، فكأنهم يقولون ان الرجل اقل من ان يستحق القتل، وعليه ان يجتهد اكثر لكي يستحقه!

    وحين يصدر كلام كهذا عن كتّاب ومثقفين مفترضين، وهم بالمناسبة من ذوي الهوى الاسلامي الراديكالي، فإنه يدل على ضعف الولاء الثقافي والمهني عند اصحابه. ذاك ان المذكورين يقولون بالفم الملآن ان انتسابهم الى وعي ايديولوجي معين يتقدم بأشواط على انتسابهم الى الثقافة او الى مهنة الكتابة، والتضامن مع من يقعون في نطاقها. بيد انهم يقولون ايضا، ان ذاك الانتساب لا يزعزعه لجوء بعض شركائهم فيه الى القتل، او التهديد به، انفاذا منهم لما يظنونه صائبا.

    اما التشكيك بحادثة التهديد، فتكذبه احداث سابقة عدة عرفتها مصر في سنواتها الاخيرة،ابتداء باغتيال فرج فودة وانتهاء بخطف وتصفية رضا هلال. وما بين هذين الانتهاكين جرت محاولة آثمة لقتل الكاتب الكبير نجيب محفوظ، فيما لجأ نصر حامد ابوزيد الى المنفى الهولندي.

لكن طرفا آخر من القلة التي علقت على موضوع سيد القمني، ذهب افراده في اتجاه آخر. فهؤلاء، وهم من يسمون انفسهم"ليبراليين جددا"، اخذوا عليه ما اعتبروه جبنه وتخاذله و"خيانته قضية الديمقراطية"، لانه شاء النجاة بنفسه ورفع الاذى عن افراد عائلته. ورد فعل كهذا، يتزيّا بالبطولة والنزعة البطولية، يثير نفس القرف والاشمئزاز اللذين يثيرهما رد الفعل الاصولي الاول. فنحن نعلم، مثلا، اية حماية حظي بها الكاتب والروائي البريطاني المسلم سلمان رشدي حين تعرض للتهديد بالقتل بعيد فتوى الخميني بحقه، ولا يبالغ المرء ان قال ان الدولة المصرية لن تبذل لحماية القمني ذرة مما بذلته الدولة البريطانية لحماية رشدي. وابعد من هذا، ان الاختراق الاصولي الواسع لاجهزة السلطات العربية يجعل التعويل على الحماية مسألة نسبية جدا: وهل نحن في حاجة الى التذكير بأن عددا من رجال الامن، في عدادهم خالد الاسلامبولي، هم الذين افتتحوا حقبة جديدة في التاريخ المصري الحديث، بإقدامهم العام 1981 على اغتيال الرئيس انور السادات؟

    وتبقى مسألة الشهادة في سبيل قضية عادلة ما. فليس من شك في ان التضحية حتى الموت كانت دائما، ولا تزال، جزءا من مسارات التغيير وعمليات احقاق الحق. ففي تاريخ الاديان التوحيدية، كما في تاريخ القضايا التاريخية الكبرى، هناك دائما شهداء تأدى عن موتهم دفع قضيتهم خطوات الى الامام، ومن ثم تقريب انتصار المسألة التي آمنوا بها، لكن الاستشهاد في الظرف الراهن، اكان مصريا ام عربيا، سيذهب صاحبه سدى، وستذهب دماؤه هدرا لأسباب لن يكون من الصعب على عين بصيرة تبنيها. ذاك ان القوى المؤهلة لتثمير الشهادة التي يبذلها فرد من الافراد، غير موجودة بتاتا. فاذا كانت الديمقراطية هي القضية التي ينبغي لسيد القمني ان يموت في سبيلها، فأين هي القوى الصاعدة والجماهيرية المؤهلة لوضع الديمقراطية موضع التطبيق، في مصر ام في غير مصر من البلدان العربية؟

     واستطرادا، اليس هذا الضعف البنيوي الكبير، في واقعنا وفي فكرنا، هو ما جعل الديمقراطية تبدو وكأنها قضية الولايات المتحدة الاميركية اكثر منها قضية الشعوب العربية؟ او ليس العراق ميدانا ساطعا بالدلالات والمعاني على هذا الصعيد؟

      وقصارى القول، ان مشكلتنا الراهنة اكبر بما لا يقاس بموت سيد القمني او غيره "دفاعا عن القضية". فنحن نعيش مرحلة قاتمة، لا تصعد فيها وتنتشر الا القوى الظلامية والارهابية، وحين تظهر قوى تفوقها ظلامية وارهابية تحظى بمزيد من الصعود والانتشار. ومعالجة وضع كهذا مديدة ومعقدة، يتعلق بعضها بالسياسي والاقتصادي، وبعضها بالثقافي والديني، ويتصل بعضها بالداخل وشؤونه اتصال بعضها الآخر بالسياسات الدولية والاقليمية.

    اما مطالبة سيد القمني، في وضع اسود ومسدود كهذا، بالاقبال راضيا مرضيا على موته، فمطالبة تجمع بين القسوة التي تفتقر الى القلب والتبسيط الذي يفتقر الى العقل. وهذا ليس من الليبرالية، قديمة كانت ام جديدة، في شيء، انه اقرب الى انماط الوعي التوتاليتاري، القومي منه والاصولي، التي تمجد الموت؛لأن الحياة ليست اكثر من "وقفة عز". ان الحياة اكثر من ذلك بكثير.

كاتب لبناني مقيم في لندن