"قناة الجزيرة" أيضاً وأيضاً

لا يعرف المرء لماذا كلّما عاد الى "قناة الجزيرة" عاد بجرعة غضب أكبر. أغلب الظنّ أن السبب كامن في أن الزمن لا يفعل إلا تقديم أمثلة جديدة على تنامي حدّة "الجزيرة" وتطرّفها. لا "ميثاق الشرف" الذي أعلنت التزامها به هدّأها، ولا المسؤوليّة عن وعي الناس وما يتسبّب به عدم وعيهم من موت مجانيّ.

اضافة اعلان

آخر الأمثلة كانت محاضرة البابا بنديكتوس السادس عشر والتي ورد فيها كلام جارح ومسيء بحقّ الاسلام. بيد أن قلّة مسؤولية البابا واجهتها "الجزيرة" بقلّة مسؤولية أكبر، حيث راحت تعيد الخبر وتمنحه الأولويّة والصدارة وهي واعية تماماً انها تمضي بعيداً في إهاجة المشاعر وتوسيع دائرة الكراهية بين المسلمين والمسيحيين. وهي إذ تفعل هذا لا تستوقفها نتائج هذا النفخ على المسلمين الذين يعيشون في أوروبا، ممن تتعاظم، والحال هذه، صعوبات توافُقهم مع المجتمعات التي هاجروا اليها، ومن ثم صعوبات توافُق هذه المجتمعات معهم. كذلك، وبقدر أكبر، لا يستوقفها أثر هذا النفخ على المسيحيّين العرب الذين سوف يدفعون كلفته المباشرة، على ما رأينا من أعمال قتل وحرق في العراق وفلسطين، من غير أن تجمع هؤلاء المسيحيّين أية صلة بأقوال بابا روما.

والحال أن التهييج الجماهيريّ، كائنة ما كانت نتائجه، هو خطة "الجزيرة" و"استراتيجيّتها. فإذا تابعنا دعاياتها لبرامجها الجديدة، أو الفواصل التي تبثّها بين برنامج وآخر، كان من الصعب جداً ألاّ نقع على صورة لجماهير غاضبة، حتى أن الفرد الواحد بالكاد نراه على شاشة "الجزيرة". فإذا كان التعامل مع المجتمعات بوصفها أفراداً شرط لإشاعة وعي مستقرّ وثقافة حديثة، فإن حشد الرؤوس كما تعتمده القناة القطريّة مقدّمة لكل فوضى وكل استبداد. وليس من غير دلالة ان هذا الغضب الجماعيّ هو المعادل البصريّ لما تخاطبه الأحزاب التوتاليتاريّة حين تتوجه الى "جماهيرنا العظيمة" والى "غضبها المقدّس".

ولمّا كان اجتماع الجماهير الذي تبثّه "الجزيرة" غالباً ما يتحقّق حول الموت والقتل، بات من نوافل تلك "الاستراتيجيّة" حبّ الموت (نيكروفيليا في لغة علم النفس)، بحيث نُصاب بالخيبة والخسران حين يكون عدد القتلى أقلّ مما نشتهي (المجازر الصغرى "لا توفّي معنا"). وإذا صحّ أن الموت يحصل في الواقع، ولا يخترعه الإعلام، إلا أن الصحيح أيضاً أن الإعلام في وسعه، من خلال تكثير الصور واستعادتها، تكرار الموت وتكثيره. وفي عمليّة مستمرّة كهذه، يتّضح كما ان الغضب الموظّف لأغراض سياسيّة يطرد الشعور الراقي بالحزن على الموتى. فنحن نريدهم أن يموتوا لكي يؤكّدوا صحّة آرائنا السياسيّة، أكثر بكثير مما نحزن عليهم. وغني عن القول ان الحزن هادىء وصامت فيما الغضب صاخب وثرثار. 

وانتقاد "الجزيرة" ليس مردّه، بطبيعة الحال، الى أن أميركا تريد هذا أو لا تريده، أو لأنها، تبعاً للمنطق الشعبويّ الرائج، تكره "الجزيرة" فتوجّهنا، نحن جنود أميركا المفترضين، كي نوالي قصفها. فالأمر، في آخر المطاف، لا يتعلّق بأحد، ولا بشيء، قدر تعلّقه بالصحّة الذهنيّة للعرب والمسلمين. واليوم، وقد غدت "الجزيرة" بمثابة أكبر "الأحزاب" العربيّة وأهمّهما، باتت الإساءة الى تلك الصحّة الذهنيّة تكتسي حجماً مقلقاً حقّاً.

والراهن أننا حُرمنا الفرصة كي نشير الى إيجابيّات "الجزيرة" بسبب كثرة سلبيّاتها التي تطغى حولنا. فهي درّجت النقد للسياسيّين والحكّام في العالم العربيّ، ولو أنه ظلّ نقداً انتقائيّاً في عمومه. وهي ابتدأت تغطية المواجهات العسكريّة مما لم يكن الإعلام العربيّ، المكتوب والمرئيّ، يُعنى بتغطيته. إلاّ أنّها، في النهاية، لم تشذّ عن القاعدة العامّة القائلة بالجمع بين ما تزوّدنا إيّاه التقنيّة الغربيّة المتطوّرة، في الاتّصال كما في غيره، وبين أفكار ورغبات يصعب وصفها بالحداثة والعصريّة مهما تساهل الوصف. يكفي التذكير بأن "الجزيرة" تُلقم أعداداً من العرب الذين يعيشون في أوروبا - والذين هم في أمسّ الحاجة الى دليل يُرشدهم في الحياة هناك - الفتوحات الفكريّة للشيخ يوسف القرضاوي وسائر أسلحة الدمار الذهنيّ الشامل مما يعيدهم قروناً الى الوراء.

لكنها سياسة لا يمكن فهمها، مهما قلّبنا الأمور على أوجهها، في معزل عن سياسة قطر. فبطبيعة الحال من حقّ قطر أن تعارض سياسات السعوديّة ومصر وغيرهما. ومن حقّها، ومن حقّ أي بلد صغير، السعي الى تجاوز الحجم الجغرافيّ المعطى، خصوصاً متى أُرفقت ضآلة المساحة بالثراء النفطيّ والغازيّ الذي تملكه قطر. إلاّ أنها بدلاً من تطوير سياسة مركّبة تخالف ما لا تراه صائباً في السياسات السائدة، وتبلور مطالعة متماسكة أخرى، نراها تلجأ الى الحلّ السهل سهولة الغضب البدويّ.

هكذا يقوم "النهج" القطريّ البسيط على تبنّي عكس ما يفعله الغير: فإذا كان مجمل الوضع العربيّ غير قادر على الذهاب في التوافق مع الولايات المتحدة الأميركية الى حدّ تقديم قاعدة عسكريّة لها، قدّمت قطر هذه القاعدة العسكريّة في السيليّة. وإذا كان مجمل الوضع العربيّ غير قادر على ممارسة الاستفزاز الفالت من عقاله للولايات المتحدة، مارست قطر هذا الاستفزاز فأعطت للعالم "محطة الجزيرة".

وعلى هذا النحو تتألّف السياسة من جمع النقائض، من غير أدنى التفات الى التناقضات التي تنطوي عليها سياسة كتلك، ومن دون أدنى اعتبار بالكوارث المحتملة التي قد تنجرّ عنها. وهذا مع العلم أن الكوارث لا تستأذن الحدود ولا تحترمها. فالنار التي تنشب في مكان ما واصلة حتماً الى شتّى الأمكنة، مهما توهّم مشعلوها القدرةَ على خنقها في اللحظة المناسبة!

كاتب لبناني مقيم في لندن