كلام بسيط في المقاومات

يميل البعض منا، لدى متابعة أوضاع الشرق الأوسط والتعليق عليها، الى التغافل عن مسألة بالغة الأهمية. فقد يصحّ كلّ نقد يوجّه الى حكم الرئيس محمود عباس في فلسطين، والى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في لبنان، وطبعاً الى الاحتلال الأميركيّ للعراق ومعه حكم الرئيس جلال طالباني ورئيس الحكومة نوري المالكي. لكن ما لا يصحّ اطلاقاً هو اعتبار ان المقاومات الثلاث، الفلسطينيّة واللبنانيّة والعراقيّة، صالحة لأن تكون البديل الذي يبقي الأوطان المذكورة موحّدة ومستقلّة، ويقودها، من ثمّ، الى مستقبل أفضل.

اضافة اعلان

والحال ان ثمة فارقاً كبيراً بين حركات ناجحة جداً في إثارة المشكلات أمام الأوضاع القائمة، بل في منع الأوضاع هذه من التشكّل والاستقرار، كائناً ما كان الرأي فيها، وبين أخرى قابلة للحلول محلّها وتوليد أوضاع أخرى بالتالي.

والحركات التي نحن في صددها من الصنف الأوّل، أي انها اذا ما نجحت تكون اكتفت بالتخريب فيما تدمّر القوى القادرة، حاضراً ومستقبلاً، على البناء.

ونزولاً من التعميم الى التخصيص تتبدّى المقاومة العراقيّة الحاليّة مشروعاً لا يفتح الا على الاحتراب الأهليّ الذي، للأسف، يقترب منه العراق يوماً بعد يوم في سرعة متعاظمة. وحتى في حال إشاحة النظر عن "الممارسات" الارهابيّة، الزرقاويّ منها وغير الزرقاويّ، يبقى ان الطابع المذهبيّ السنيّ لتلك المقاومة لا بدّ أن يستحضر مقاومة له من المذهب الآخر، الشيعيّ، بقدر ما يستحضر مقاومة ثانية تحملها الإثنيّة الأخرى في العراق، أي الكرديّة. وفي الحال هذه، وهي، لسوء الحظّ، تتقدّم على قدم وساق، ينتهي العراق نهاية بائسة جدّاً ودمويّة جدّاً. فكيف حين نضيف الى اللوحة الكئيبة هذه كلّ الاستعدادات الخصبة التي تكمن في تعاظم النفوذ الايرانيّ في النصف الجنوبيّ من البلاد، وحتميّة التدخّل التركيّ رداً على النفوذ الايرانيّ، عملاً بقانون لا يخطئ حكم تاريخ البلدان الثلاثة.

أما في لبنان، وبغضّ النظر عن الرأي في مقاومة اسرائيل ومدى نجاحها أو ضررها، يبقى ان بندقيّة "حزب الله" تملك ترجمة حصريّة واحدة: انها سلاح في يد إحدى الطوائف، وهي هنا الطائفة الشيعيّة، في مقابل طوائف اخرى (السنّة، الدروز، المسيحيّين) عزلاء وخائفة. وهذا، بدوره، لا يعني، وعلى ما تعلّم التجربة اللبنانيّة المديدة والغنيّة بالدروس، الا ان الطوائف الاخرى سوف تتسلّح، فيما يغدو السلام اللبنانيّ، إن لم يكن لبنان نفسه، قاب قوسين أو أدنى من الفناء.

وهنا ايضاً تتدخّل عناصر تعزّز التشاؤم في صدد المستقبل اللبنانيّ. فإذا ما أزيحت الدولة كطرف عازل، أمكن لاسرائيل وايران وسوريّة، وكلّها حاضرة في لبنان بشكل أو بآخر، ان توسّع رقعة نفوذها وتمدّدها. وغنيّ عن القول إن اللبنانيّين لم ينسوا بعد السنوات التي سبقت العام 2000 حين كان الجيشان السوريّ والاسرائيليّ صاحبي الكلمة الفصل في معظم مساحة بلدهم وقرارها.

والشيء نفسه يقال في فلسطين حيث تحلّ الولاءات الايديولوجيّة (ومعها المواقع الطبقيّة والمراتب التعليميّة) محلّ الطوائف في العراق ولبنان. ذاك ان هيمنة حركة "حماس"، بما تمثّله فكريّاً وسلوكيّاً، تفضي الى مثلّث من النتائج التي لا تقوم معها قائمة لفلسطين، أو ما تبقّى منها:

فأوّلاً، سيتّسع الشرخ العميق الذي يشقّ المجتمع نفسه، دافعاً كلّ الذين لا يقولون قول "حماس" الى موقع استقطابيّ حادّ. وأغلب الظنّ أننا نقع في هذه الكتلة على الكفاءات الماليّة والعلميّة، فضلاً عن حضور المرأة والأقليّات.

وثانياً، ستغدو القطيعة عن العالم الخارجيّ مبرمة، على ما يدلّ الاستقبال الدوليّ البالغ السلبيّة لتشكيل حكومة اسماعيل هنيّه الحماسيّة. وهنا، لا يقدّم شيئاً ولا يؤخّر كون المقاطعة محقّة أو غير محقّة، لأن تأثيراتها على كيان كالكيان الفلسطينيّ المفقر قاتلة وقاضية.

وثالثاً، ستستكمل فلسطين تحوّلها مجرّد ساحة التحام اقليميّ بين جيش اسرائيليّ يستبيحها أكثر مما يفعل الآن، مبرّراً ذلك بعجز الفلسطينيّين عن تولّي أمورهم بأنفسهم، وبين النفوذ الايرانيّ- السوريّ الذي يجد في "حماس - الخارج" جسره الى التأثير في الداخل.

يحثّنا هذا الاستعراض البسيط والسريع في آن معاً على خفض حجم التوقّعات والرهانات في ما خصّ المقاومات الثلاث، اللهمّ الا اذا كان هدفنا تحويل بلداننا الى "مقبرة للعدوّ" والعيش تالياً بين القبور. لكنّه يُفترض به أن يدفعنا الى ما هو أبعد، أي الى شيء من التواضع السياسيّ المقرون بالواقعيّة السياسيّة. ذاك ان مهمّة المهمّات، اليوم أكثر من أي وقت مضى، البحث عن إجماعات وطنيّة ممكنة داخل البلدان الثلاثة، ومن ثمّ محاولة البناء عليها لبنةً لبنة. فكيف نعيد تأسيس الوطنيّات الثلاث المتصدّعة في العراق وفلسطين ولبنان؟ هذا هو السؤال المقرّر، والذي لا جواب عنه من دون تغيير في الأولويّات يتضمّن نزع السلاح المخيف للجماعات الأخرى داخل الوطن الواحد.

لقد دفعت البلدان الثلاثة أكلافاً باهظة مقابل فهم سائد للوطنيّة يعرّفها على انها "ضدّ" عدوّ ما، قبل أن يعرّفها بوصفها فعل ولاء لشعب ووطن معيّنين. والدماء التي تتفجّر هنا، أو تتحفّز للوثوب هناك، وهي كلّها دماء عرب قتلهم عرب آخرون، تحضّنا على هذا التغيير... الآن الآن قبل الغد.

كاتب لبناني مقيم في لندن