كُلّنا "بالة"

منذ أن دخل (س) تلك المؤسّسة المالية الكبرى، قبل عدّة أعوام، وصار يعمل فيها، صمّم بينه وبين نفسه أن يهجر ملابس البالة -كما يُقال- للأبد. لقد تشكّل لديه على مدار السّنوات الماضية ما يمكن تسميته بالحقد الطّبقي. لقد صرّح لزملائه في أكثر من مناسبة، أنّه يمقت أولئك الأرستقراطيين، أصحاب الياقات المنشّاة والبدلات الفاخرة.
ربّما كان هذا القرار الذي اتّخذه (س) بمقاطعة البالة، راجعاً إلى عدد كبير من المواقف المحرجة التي تعرّض لها بسبب ما كان يلبسه. ما يزال (س) يذكر أحد المعلّمين، كيف ناداه مرّةً أمام الطلبة قائلاً "فروة أبو حسن اخرج واكتب على اللوح كذا"! لقد أثار هذا التعبير ضحكاً ولغطاً في الصّف. كلّ ذلك طبعاً كان بسبب معطف من الفرو الغريب كان يرتديه، وقد همس له أحد أصدقائه في ذلك الوقت بأنّه معطف ستّاتي! يذكر (س) كيف كان يأخذه أبوه مع إخوته إلى شارع الطّلياني الشهير كلّ فترة، فيشتري لهم كسوتهم من ملابس البالة.
زمن البالة انتهى، قال بشكلٍ جازم بينه وبين نفسه، ولكنّه حين أصبح يقارن لباسه الجديد بلباس مسؤولي المؤسّسة الكبار، أو حتى بلباس مدير قسمِهِ الخاص كان ينتابه الفزع، فقد كانت البدلات الباذخة التي يرتديها هؤلاء لا يمكن أن تُقارَن ببدلته ذات السّتين ديناراً. اللعنة! قال في سريرته، لقد أفسدت الصّين وكوريا حتى الملابس.
ذات نهار، التقى (س) أحد أصدقائه القدامى. ذهبا إلى أحد المقاهي. ما لفت انتباهه إلى أنّ ذلك الصّديق كان في أقصى درجات تألّقه، كان يرتدي بدلة غاية في الجمال والأناقة. قال له: أهنّئك من كلّ قلبي على هذا الذّوق الرّفيع، ردّ عليه صديقه قائلاً: الفضل في ذلك يعود إلى الله أوّلاً ثمّ إلى سوق (نيكسون)، وقد كان يعني سوق الملابس القديمة. معقول! سأل (س). قال الصّديق: نعم، ولكنّ المحلّ الذي أشتري منه يبيع بأسعار مختلفة، وأنت تعرف فهي أعلى من الأسعار المتداولة في محلات البالة الأخرى، ثمّ أردف قائلاً: لا تنس أنّ الملابس هذه هي من أرقى الماركات العالمية.
أين يقع ذلك المحلّ؟ سأل (س) صديقه، فقال الصديق: إنّه يقع في شقّة خارج المدينة في طرف الحي كذا، ولكن بدلاً من ذلك الوصف ما رأيك أن نذهب سويّةً في الأيّام المقبلة إلى هناك؟
التقى (س) مع صديقه في الوقت المحدد، استقلا سيّارة أجرة، ولكنّهما ما كادا يهبطان منها، حتى شاهدا عدداً من السّيّارات الفارهة التي تقف في المكان. حدّق (س) في السّيّارات الواقفة بدهشة، فقد كان يعرفها. ما لك تتلكّأ؟ قال له صديقه، فقال متلعثماً: لا، لا شيء.
دلف الصّديقان إلى داخل المحلّ، وفجأةً تسمّر (س) في مكانه، فقد تقابل وجهاً لوجه مع مديريه في العمل. حين طرح السّلام عليهم، وقفوا جميعاً لاستقباله. ولمّا كانت تبدو عليه علامات الإرباك، تقدّم المدير العام لفرع المؤسسة التي يعمل فيها، وأشار بسيجاره الفاخر الذي يدخّنه على الموجودين جميعهم قائلاً وهو يقهقه: في زمن الغلاء الفاحش، والفقر الذي يعصف في الأجواء، كُلّنا بالة.

اضافة اعلان

[email protected]