كي لا يكرر الليبراليون العرب تجربة الشيوعيين العرب

    يفترق التقليد الليبرالي عن التقليد الماركسي في نقاط اساسية عدة. فالاول ينطلق من فكرة "الحرية"، ساعياً الى احلالها في صدارة الواقع، فيما الثاني تحركه فكرة "الخلاص"، الذي يتحقق -على الارض بدل السماء- من طريق انتصار الطبقة العاملة. والاول يتجسد في نظام سياسي ديمقراطي واقتصاد حر، بينما يتجسد الثاني (او ان هذا، على الأقل، ما حصل عملياً) في نظام سياسي توتاليتاري واقتصاد موجه.

اضافة اعلان

      لكن على رغم هذه الفوارق وغيرها، يجمع بين التقليدين صدورهما عن تراث التنوير الاوروبي وقيمه، وعن المجتمع الصناعي بطبقاته وتراكيبه الذهنية ومصالحه الاجتماعية، اضافة الى استقرار السياسة الاوروبية على هذا الهامش او ذاك من الاستقلال عما عداها.

وللأسباب هذه، فإن التقليد الماركسي حين انتقل، من خلال الاحزاب الشيوعية، الى "العالم الثالث"، واجهته صعوبات لم يعد نفسه لها اطلاقاً. ففي هذا الجزء من العالم لم يشق التنوير والاصلاح الديني طريقهما، ولا ظهرت السياسة تالياً كنشاط اجتماعي مستقل، كما لم يتح للمجتمع الصناعي بطبقتيه الرئيستين، البورجوازية والبروليتارية، ان ينشأ.

        هكذا لم يتحول الشيوعيون، الذين ضموا افراداً من النخبة الثقافية ومن النواة العمالية الصغرى، إلى قوة ملحوظة في "العالم الثالث" بالمعنى الذي صارته، ذات مرة، احزاب شيوعية في فرنسا وايطاليا. صحيح ان بلداناً كالسودان والعراق واندونيسيا، عرفت في هذه الحقبة او تلك احزاباً شيوعية قوية نسبياً، غير ان هذه الاخيرة ظلت مهيضة الجناح حيال الديكتاتوريات العسكرية، تبعاً للمسافة التي تفصلها عن الكتل الاهلية (الاديان، والطوائف، والعشائر...)، وتنصل هذه الكتل تالياً منها وعدم استعدادها للدفاع عنها. وما ان انفجرت الهويات الاهلية الصغرى، وتراجع بها الخجل الحداثي والعلماني الذي ساد في الخمسينيات والستينيات، حتى جاهرت الاكثريات الساحقة في مجتمعاتنا بانتماءاتها "الاصيلة". وفجأة، وجد الشيوعيون انفسهم اقليات هزيلة في محيط جماهير الاديان والطوائف والاثنيات.

وقصارى القول، ان الافتقار الى الدعم الشعبي العريض هو ما دفع بالشيوعيين الى طلب الاستعاضة في دعم يوفره الاتحاد السوفياتي وبلدان كتلته الراحلة. بيد ان ذلك ادى الى تصوير الشيوعيين "عملاء" لموسكو، فضلاً عن اعتبارهم شللاً "غريبة"، تمارس وعياً "مستورداً". ولم تشفع للشيوعيين محاولاتهم اللحاق بقضايا العالم المتخلف، والتحاقهم بطائفة واثنية هنا او بنظام عسكري هناك. فحينما انهار المعسكر السوفياتي، انتهت تجارب الاحزاب الشيوعية كلها نهاية مأسوية.

       بالطبع لم يكن الشيوعيون"عملاء"، كما ردد خصومهم بإفراط وانتهازية في غالب الاحيان، لكن جذر المشكلة انهم ترجموا حرفياً تجربة "الحزب" في اوروبا وفي الفكر السياسي الغربي، حيث الحزب اداة وصول الى السلطة ومن ثم امساك بها. وهكذا تم اقتحام الحلبة السياسية ولم تكن السياسة قد نشأت اصلاً! وكان الأحرى، والحال هذه، التركيز على النشاط الثقافي والتنويري البحت، الذي يمهد سبيل المجتمع لان يصير مجتمعاً بدل ان يكون طوائف واثنيات، كما يساعد تالياً على قيام السياسة، ونشوء كتل شعبية تفكر بمصالحها بدل ان تفكر بغرائزها وولاءاتها الموروثة.

         بلغة اخرى، كان الانفع للجميع ان ينشر الشيوعيون افكاراً عن حقوق المرأة وعلمنة المجتمع وأهمية تعليم الفلاحين والاصلاحات الزراعية في الارياف، تماماً كما ان الانفع للجميع اليوم ان ينشر الليبراليون العرب افكاراً وقيماً عن حكم القانون واهمية فصل السلطات، فضلاً عن باقي مسائل التحديث الموروثة عن مطالع القرن العشرين، والتي لم تحل حتى الان.

         والواقع ان تكرار الليبراليين خطأ الشيوعيين، واستعجالهم دخول السياسة (وهي لم تصبح سياسة بعد) يهددان بتصويرهم "عملاء" للولايات المتحدة الاميركية. فهاتان المدرستان اللتان وفدتا من الغرب الينا، لن تصبحا شعبيتين قبل ان ترسو مجتمعاتنا نفسها على قدر من الحداثة الغربية. وهو مسار طويل ومعقد، لا يبلغ خلاصاته الا متى جدّت تحولات فعلية، اقتصادية وثقافية، في الواقع نفسه.

          غير انه، وفي غضون هذا المسار، يمكن لاصحاب الوعي الليبرالي تمييز صوتهم، ورفع درجة صدقيتهم ومقبوليتهم. ففي مقابل التنديد المطلوب بظاهرات التعصب والعداء للغرب في مجتمعاتنا، لا بد من التنديد بالسياسات المجحفة وغير العادلة التي تهب من الغرب علينا، والتي تدل في ما تدل، على انحراف بعض الساسة الغربيين انفسهم عن الليبرالية.

         ويمكن، بالمعنى نفسه، استخدام وعي، مركب تطغى النزاهة فيه على العصبية. كأن يصار الى تأييد سياسات الضغط الغربي من اجل التحديث والتقدم وحل النزاعات العنفية في منطقتنا، وهو ما رأينا بعضه في السودان والخليج ولبنان، في مقابل رفض سياسات الحرب كما شهدناها في العراق، او كما تمارسها اسرائيل في فلسطين.

         ولا يقتصر استعجال السياسة بأي ثمن كان على تهمة "العمالة" وحدها؛ فهو يترافق كذلك مع واحد من نعتين قاتلين لصاحبه: اما العجز عن احداث اي تأثير، وكيف لـ"العميل" ان يحدث مثل هذا التأثير؟ واما الاصطباغ بنخبوية متعالية، قد تقود الى التآمرية كما قد تقود الى العنصرية حيال "شعب لا يفهم". بل قد تفضي الى التصفيق لسياسات حربية وعدوانية، يمارسها هذا الطرف الغربي او ذاك رداً على الشعور الذاتي بالعزلة والتهميش. وفي الحالات جميعاً، ينتهي الامر بالليبراليين الى التنكر لليبراليتهم المفترضة.

وغني عن القول، إن تهمة "التبشير" تبقى اسلم عاقبة من تهم "العمالة" او التحريض على الحروب، فكيف وان مجتمعاتنا لا تزال بحاجة الى تبشير كثير؟

كاتب لبناني مقيم في لندن