لحظة الغموض الكبير؟

يلوح كأن منطقة الشرق الأوسط تعيش لحظة لزجة من الغموض الكبير. فهي ربّما كانت تمارس عمليّة انتقال نحو وضع أشدّ تبلوراً وتماسكاً. لكنها ربّما كانت، في المقابل، توالي زحفها نحو الانحدار والتفكّك. فبعد مؤتمر أنابوليس مباشرةً بدا كأن نهجين سياسيّين يباشران احتضارهما:

اضافة اعلان

أوّلهما: النهج البوشيّ الذي يتعامى عن وجود قضيّة فلسطينيّة تستدعي البتّ، ويتعامل تعاملاً ايديولوجيّاً مع القوى التي تناوئه ويناوئها مستبعداً التعاطي السياسيّ أو منطق المراحل والأولويات في الخطورة(كأنْ يتمّ، مثلاً، الانفتاح النسبيّ على سورية لمحاصرة ايران، أو العكس).

فالنهج هذا الذي يأخذ خصومه كلّهم دفعة واحدة، وبالحماسة نفسها، هو الذي ولّى لمصلحة منطق بوشيّ جديد ترمز اليه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ووزير الدفاع روبرت غيتس، بعدما ارتبط النهج السابق برموز "المحافظين الجدد".

وربّما كان من أسباب التحوّل هذا ان العهد الثاني لبوش يدخل آخر أطواره، وأن ادارة جديدة يُرجّح أن تكون ديموقراطيّة، هي التي سوف تمسك بمقاليد واشنطن. وفي المعنى هذا، يجيء التحوّل ليسهّل عمل الإدارة القادمة فلا تنطلق من رصيد سالب، حتى ان مراقبين جديّين لم يستبعدوا اندراج التقرير الأخير والشهير لوكالة المخابرات المركزيّة عن إيران في هذه العمليّة: فإذا صحّ أن للتقرير المذكور خصومه الكبار داخل الإدارة الحاليّة، والذين ردّوا، واحداً بعد الآخر، على مضمونه، لكن هذا لا يلغي القابليّة لاستخدامه من قبل الإدارة المقبلة كدليل على تغيير الوجهة المعتمدة حيال طهران. وفي حال صحّة هذا التقدير، يفيد التقرير في خدمة وحدة السياسة الخارجيّة والتكامل، على المدى المتوسّط، بين عناصرها المتعارضة.

أما النهج الثاني الذي بدا أنه يدخل طور احتضاره فذاك الراديكاليّ "الممانع". فقد بات واضحاً أنه بلغ أقصى ما يمكنه بلوغه، وأن استمراره في العضّ على الجرح لن يترتّب عليه إلاّ مزيد من التعفّن الذي يصيبه هو في الدرجة الأولى.

فالحال في قطاع غزّة بعد استيلاء حركة "حماس" عليه رديئة بما لا يستدعي الإمعان في الوصف، بينما يعلو صوت المعارضة الإيرانيّة فيصل الأمر برئيس الجمهوريّة السابق محمد خاتمي الى تشبيه القمع الحاليّ بقمع النظام الشاهنشاهيّ البائد. ومقارنة كهذه إنما ترقى الى تجرّؤ على المقدّسات الثوريّة السائدة.

وبدورها فإن سورية شهدت، وتشهد، تجديد الحملة ضد الناشطين والمثقفين من دعاة الديموقراطية والمجتمع المدني، بينما تزايدت الأخبار عن أوضاع صعبة يعانيها "حزب الله"، فيما نشرت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنيّة خبراً لافتاً جدّاً عن خلاف الأمين العام حسن نصر الله ونائبه نعيم قاسم، وانحياز المرجع الإيرانيّ الأعلى علي خامنئي الى الثاني وتسليمه، من ثمّ، منصب القيادة العسكريّة للتنظيم. وأهمّ مما عداه ما يمكن اعتباره إعادة تموضع في العلاقات السوريّة – الإيرانيّة. فكأن دمشق، بعد التباين في أنابوليس، تنوي الانتقال من التحالف مع طهران الى التقاطع ودرجة من الصداقة ليس التماثل من صفاتها. وفي السياق هذا، تحاول سورية، حسب بعض المراقبين، أخذ تركيا ومصالحها بعين اعتبارها بوصفها طرفاً إقليميّاً لا يقلّ تأثيراً عن طهران.

غير ان دخول طور الاحتضار لا يعني سرعة الاحتضار. فهو قد يكون بطيئاً ومديداً يتغذّى على ضعف الأطراف المعنيّين جميعاً، لا سيّما وأن الرئيس جورج بوش أمسى هو نفسه "بطّة عرجاء"، كما تقول اللغة السياسيّة الأميركيّة تدليلاً على الضعف وأواخر العهد بالولاية، كما يتغذّى بطء الاحتضار على طبيعة هذا النمط من "التفاوض" المداور. فالإيرانيّون والسوريّون ليسوا من الفرقاء الذين يسلّفون مسبقاً وبالجملة، بل هم تجار مفرّق وبالتجزئة، يصرّون على تسلّم البضاعة كاملة قبل أن يدفعوا نصف أثمانها، خصوصاً وأنهم يعرفون ان حاجة بوش الى التسوية، بسبب العراق أساساً ولكنْ بسبب غيره أيضاً، مثل حاجتهم اليها.

وهذا ما يخلق الجوّ اللزج الراهن حيث يتعايش تقدم نسبيّ أوحى به مؤتمر أنابوليس ومباشرة التفاوض الفلسطينيّ – الإسرائيليّ وعدد من الانجازات المتواضعة الأخرى، مع تسخين "تفاوضيّ" تتجمّع إشاراته في لبنان مع التأجيل الثامن لانتخاب رئيس جمهوريّة مرفقاً بعمليّة الاغتيال الأخيرة، وحتى في العراق حيث استعاد العنف الإرهابيّ بعض زخمه، على ما تدلّ العمارة وسواها. ولئن تبدّت حدود القدرة الإسرائيليّة الضئيلة على التنازل، في ما خصّ الاستيطان، أعاد فاروق الشرع، نائب الرئيس السوريّ، الاعتبار لفكرة مؤتمر الفصائل الفلسطينيّة المعارضة في دمشق بعدما ساد الانطباع بأن المسألة تمّ طيّها، فعلى أي مشهد سوف ينجلي الغموض الكبير هذا، والى أي مكان سوف تنتهي اللزاجة؟