لم يعد يوجد أسوأ

تضعنا السياسة الأميركيّة، لا سيّما "الحرب على الإرهاب"، أمام المعضلة نفسها التي تضعنا أمامها الأنظمة التوتاليتاريّة وشبه التوتاليتاريّة في العالم العربيّ: إذا استمرّت على قيد الحياة، أي على صدور شعوبها، كانت الكارثة محقّقة. وإذا ما زالت وبادت وجدنا أنفسنا، في ظلّ التكوين المجتمعيّ والثقافيّ السائد، أمام كارثة محقّقة هي الأخرى.

اضافة اعلان

فالأنظمة هذه بتعطيلها المجتمع سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد، وبمراكمتها كبت الجماعات الأهليّة، طوائفَ كانت أم مذاهبَ أم إثنيّات، تتركنا أمام المعضلة- المأزق. ذاك أن المجتمعات حين تخرب وتتعرّض للتعفّن، يصير المطروح علينا واحداً من اثنين:

- إما أن نغامر بالتغيير ولو انفجر في وجهنا هذا المجتمع الخرِب، عملاً بالقول العدميّ ان ما نعيشه هو أسوأ ما يمكن بلوغه، وأي تغيير، بالتالي، لا يمكن إلا أن يقودنا الى مكان أفضل.

- وإما أن نبقى تحت وطأة الاستبداد الذي يلجم انفجار الخراب، غير أنه يمدّه بأسبابٍ تقويّه وتعزّزه في الظلّ والخفاء. وفي هذه الحال نكون منحنا خيارنا لاجتناب "الفتنة" وطوينا صفحة الحريّة كليّاً أو جزئياً.

بالمعنى هذا، ولو اختلفت الأسباب، تطرح علينا السياسة الأميركيّة في العراق (وفي أفغانستان وأمكنة أخرى) المشكلة إيّاها: فمن الواضح أن بقاء الجيش الأميركي هناك لن يحلّ المشكلة المعقّدة التي تزداد تفنّناً في ألوان العنف والهمجيّة التي ترتديها. ولا يغيّر في الحقيقة هذه رحلة استعراضيّة يقوم بها جورج بوش الى بغداد لنصرة حزبه الجمهوري في انتخابات منتصف الولاية! إلا أن رحيل الجيش المذكور عن العراق يواجهنا باحتمال شبه حتميّ مؤدّاه انفجار العنف هناك على نحو غير مسبوق، بحيث تتحوّل الحرب الأهليّة النسبيّة والموضعيّة الى حرب أهليّة مطلقة وشاملة.

والمعضلة أن هذا وذاك مما لا يمكن تأجيله الى الأبد. فالأنظمة التي تقوم على الكبت والاستبداد ستسقط بصورة أو أخرى، إما بتحلّل داخليّ مديد يفضي الى انفجار يصعب تلافيه، وإما بتدخّل خارجي أو نزاع مدمّر مع طرف أجنبي يستحيل تفاديه. والشيء نفسه يمكن قوله عن الوجود العسكريّ الأميركيّ في العراق (وفي أفغانستان و...) مما لن يكون ممكناً إبقاؤه الى أبد الآبدين.

فهل ثمة، في الحالتين، أيّ تصوّر للحظة التالية؟ هل ثمة أي مراجعة لمسؤوليّة شعوبنا عن مستقبلها؟

لقد انقضت خمس سنوات على جريمة 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التي أشعلت معظم الحريق الذي يلفّنا اليوم من الجهات جميعاً. إلا أن الجريمة المذكورة وما تلاها أشبه بالمخاض الذي يرافق الولادة وليسا هما سبب الولادة. فقد انقشعت في مناخهما أوجه القصور البُنيويّ العديدة في اقتصادنا وتعليمنا وثقافتنا وسياستنا وتمتّعنا بالحريّة وحسّنا بالمسؤوليّة. والأوجه هذه لا تني تتفاقم وتهدّدنا بأشكال مختلفة يصطبغ كل واحد من بلداننا بشكل معيّن منها.

وكائنةً ما كانت الحال، يبقى التحدي، الذي انفجر في وجوهنا قبل خمس سنوات، هو نفسه. كذلك يبقى التهديدان اللائحان في أفقنا جاثمين، أي سقوط الأنظمة وبقاؤها، والانسحاب الأميركي من العراق وبقاؤه.

فهل أعددنا شيئاً؟ وما هو يا ترى؟

لا شكّ أن ما يحصل الآن في فلسطين يقترح علينا أسوأ الافتراضات والتوقّعات. ذاك أن الفلسطينيين دفعوا بعض أكبر أكلاف 11 أيلول، وهم يعيشون وجهاً لوجه أمام تحدّ إسرائيلي يستهدف أرضهم ووجودهم السياسيّ في آن واحد. لكن ذلك كله لم يخلق – على ما يدلّ النزاع الناشب والمتمادي بين حركتي "فتح" و"حماس" حول الاستفتاء وغير الاستفتاء – حسّاً وطنيّاً رفيعاً بالمسؤوليّة والمصير المشترك. ومن يتابع السجالات، لا سيما التلفزيونيّ منها، بين سياسيين ومثقفين عراقيين، يُخيّل إليه أن العنف اللفظيّ يواكب، بكلّ همّة ونشاط، العنف الطائفيّ الفعليّ على الأرض، بل يبرّره ويغطّيه، وأحياناً يسبقه ويمهّد له.

وهكذا دواليك تداهمنا حالة عربيّة تشجّع، ولو بكثير من الأسى، على القول إن الإحساس بكوننا شعوباً لا يزال أضعف، بلا قياس، من الإحساس بأننا جماعات دينيةّ وإثنيّة ومذهبيّة(وكذلك حالات إيديولوجيّة تحوّر و"تحدّث" الولاءات القديمة). ووضع بائس كهذا الموصوف يبقى صامداً في وجه الطوفان الذي يتقدّم صوبنا، أكان على صورة استمرار الأنظمة السياسيّة أو سقوطها، أو كان على شكل البقاء الأميركي في العراق أو الرحيل عنه، أو – أخيراً – على هيئة مشروع إسرائيليّ يحمل اسم الانسحاب من طرف واحد وتوقيع رئيس الحكومة إيهود أولمرت.

فنادراً ما كانت التحديات في هذه الجسامة وفي هذا المدى من الاتّساع الجغرافيّ. ونادراً ما كانت الحاجة إلى إعمال الخيال واستخدام المسؤوليّة مطلوبة كما هي مطلوبة الآن. لكنْ نادراً ما كان العجز عن الارتقاء كاملاً كما يلوح راهناً، لا يخفّف من هوله أنه مصحوب بقدر من الصراخ الانتصاري هو الآخر غير مسبوق.

ملاحظة: العزاء الوحيد أن سياسة جورج بوش خاطئة، وهي كذلك، وأن نسب تأييده بين الأميركيين بالغة التدنّي، وهي أيضاً كذلك. وهذا العزاء، على رغم سخافة التعويل عليه، يقول إننا بلغنا حدّاً يبدو معه أن الشيء الوحيد الذي يمكننا أن نفعله هو ما يفعله "عنّا" جورج بوش بالأخطاء التي يرتكب!

كاتب لبناني