مثل قطعة من الليل!

يتغير عالم الأزياء تغيراً ملحوظاً بين فترة وأخرى، من خلال دور الأزياء العالمية، التي تضخ سنوياً إلى الأسواق عدداً هائلاً من الموديلات الجديدة، غير أن هناك ما هو ثابت في تلك الأزياء، واتخذ صفة التقليد. من تلك الأزياء الثابتة مثلاً العباءة العربية، الثوب المطرز في فلسطين، والكومونو في اليابان.

اضافة اعلان

على صعيد لباس المرأة العربية في المنطقة (الأردن أنموذجاً)، فقد شهد مجموعة كبيرة من التبدلات، تمثلت بالانتقال من الأنماط السائدة التقليدية والأوروبية إلى اللانمط أو اللاشكل! فقد حل هناك زي واحد ووحيد لدى الكثير من النساء، تمثل بذلك الثوب الأسود الطويل، والمنديل الأسود أيضاً الذي يغطي الرأس والوجه. فيما ظلت أخريات يرتدين اللباس الأوروبي.

قد يخطر على البال السؤال الآتي: لماذا ساد لدينا اللباس الأسود بالذات على غيره من الألبسة؟

هنا لا بد من العودة إلى الموطن الأول لهذا اللباس، وهو هنا الخليج العربي، ويبدو أنه ظهر مرافقا للدشداشة البيضاء التي يرتديها الرجل. مقابل الدشداشة البيضاء التي تعني في جملة ما تعنيه صفاء النفس ونقاء السريرة، نجد الثوب الأسود الطويل الذي يحمل كل معاني العتمة والغموض والانزواء والموت. أليس اللون الأسود في حياتنا يمثّل لون الحِداد؟

هذه المعاني الرمزية لكل من الدشداشة البيضاء والثوب، ربما تظهِر الصفات التي يتمتع بها الجانبان (الرجل والمرأة)، فالرجل واضح يتخذ خطواته في عز الظهيرة، وهو نقي لا يُضمر الشر أو الأذى للآخرين، أما المرأة فغامضة، والسواد الذي يحيط بها يجعلها مثل قطعة من الليل، كما أنها ذات جسد مدنس لا بد من إخفائه.

لباس المرأة الأسود انتقل إلينا من خلال السفر إلى الخليج، وقد ارتدته النساء العائدات من هناك كتعبير عن حالة الثراء التي وصلن إليها! ـ في الواقع قد لا يكنّ ثريات، ولكنهن كن يتقمصن الحالة، فيزدهين بذلك الثوب الذي يرمز إلى المال والجاه ـ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فيعتقد قسم كبير من النساء أن ذلك اللباس يستر الجسد، وذلك عكس اللباس الأوروبي الذي يظهِر بعض أجزاء الجسد، ويسبب الفتنة.

اللباس الأسود الذي جاء من الخليج لم يبق كما هو، وإنما ظهرت عليه تغييرات جديدة، كان من أهمها نوع القماش الرخيص الذي صار يصنع منه الثوب، هذا بالإضافة إلى فقر التطريز الذي فيه، مما جعل منه في نهاية المطاف مجرّد ملاءة سوداء تغطّي الجسد.

ساعد على رواج هذا النوع من الثياب ارتباطه في اللاوعي بفكرة اللباس الإسلامي، وبفكرة الأسلمة عموماً التي أخذت تمتد على مساحة هائلة من حياتنا، ولكن من دون أن تطال العمق المطلوب من الوعي، فبقيت مجرد غطاء يستر الداخل المضطرب الهش.

أنا أستغرب كيف غدا هذا الطراز من اللباس رمزاً دينياً، أو كيف تم زواجه بالدين! حتى الستينيات من القرن الماضي كنا نعيش الحياة على طبيعتها. أذكر أواخر الستينيات، وبعد هزيمة حزيران انتشار أنواع صاخبة من الموديلات، تمثلت بالمني جوب، وسراويل ضيقة كنّا نسميها بالسريتش، لكن هذا اللباس لم يكن ليشغل بال أحد، ولم يكن ارتداؤه ليشكل خروجاً عن الملة! في تلك السنوات عاش الجميع هاجس المقاومة، وتحرير فلسطين، ولم يكونوا بحاجة إلى أحد ليذكرهم بأنهم مسلمون.

[email protected]