مقهى كوني

كان لظهور فكرة المقهى، وتطوّره فيما بعد أثرٌ كبير في التّحلّل من فكرة البيت، أو في إيجاد بيت بديل بمواصفات وعادات مغايرة، ففي البيت يتم السّكن حيث يأوي إليه أفراد الأسرة ويحتفظون بأسرارهم بعيداً عن تدخّل الآخرين، أمّا في المقهى فيأتي إليه الناس في الأصل كي يجتمعوا ويتعارفوا ويطرحوا فيه أفكارهم. المقهى بهذا الاعتبار بيت عامّ، أو بيت مفتوح على الحياة والنّاس، والحرّية، ومن مظاهر الحريّة المشاعة في المقهى أنّ روّاده قد يلجؤون إلى ممارسة بعض العادات المنافية لتقاليد المجتمع مثل عملية لعب القمار!

اضافة اعلان

لقد أثّر المقهى كثيراً في الحياة العامّة العربية، فبعض هذه المقاهي شهد اجتماعات أقطاب الحركة الوطنية كما هو الحال مع مقهى حمدان في الأردن الذي جرى فيه عقد المؤتمرات الوطنية الأولى منذ العشرينيّات من القرن الماضي، بعض هذه المقاهي كان مقرّاً للكتّاب والفنّانين المعروفين مثل مقهى ريش في القاهرة.

تطوّرت فكرة المقهى عربيّاً في العقود الأخيرة، أو لنقل أصابتها بعض التّغيّرات الجديدة، وهي تغيّرات أتت إلى المقهى بفعل الغرب، بحيث بات في الإمكان جلوس المرأة جنباً إلى جنب مع الرّجل في المكان، هذا بالإضافة إلى أنّ بعض المقاهي صارت تقدّم لروّادها أنواعاً أخرى من المشروبات غير المتداولة والممنوعة في حياتهم اليومية!

مع اندلاع ثورة المعلومات واختراع الإنترنت، توصّل الإنسان إلى ابتكار مقاهٍ من نوع جديد ومختلف، ففي ظلّ هذه الثّورة أصبح من السّهل على الشّخص أن يلتقي بالآخرين (أشخاص يعرفهم، وأشخاص لا يعرفهم من قبل)، بحيث باتت الفرصة متاحة أمامه ليدلي بآرائه ويستمع إلى آراء هؤلاء الآخرين بمعزل عن أيّة ضغوط محتملة. في مقهى الإنترنت هذا، ولنأخذ كمثال عليه (الفيس بوك) يلتقي الواحد بأناس آخرين من جنسيّات ومشارب متنوّعة، فيحاورهم ويتبادل معهم الأفكار فيما يهمّه ويهمّهم. في هذا المقهى (الكوني) يتم إبرام صداقات وعلاقات لم تكن متاحة فيما مضى، بما فيها إقامة العلاقات العاطفيّة التي يمكن لها أن تتطوّر وتؤدّي إلى الزّواج! وقد حدثت هناك فعلاً مثل هذه الحالات. باختصار أصبحت مثل هذه المقاهي تحدث أنماطاً جديدة من السّلوك في الحياة العامّة وفي حياة الأفراد، وبهذا يمكن القول إنّ هناك تغيّرات جذرية وأساسيّة ستطرأ على بنية المجتمعات الثقافية والاجتماعية والسياسية...إلخ.

كانت التّحوّلات الجديدة والمفاجئة في الوقت نفسه التي أحدثها اختراع الإنترنت وثورة المعلومات بشكل عام، بمثابة خروج على منظومة القوانين والأعراف السّائدة، ممّا نبّه القوى التّقليدية والمحافظة باتّجاه محاربتها والحدّ من انتشارها. الحكومات العربية أو بعضها رأت في الإنترنت مجالاً حيويّاً للمعارضة، التي أصبحت تجدّد نفسها وتتنسّم أنفاساً جديدة من خلال الحصول على المعلومة ونشرها على أوسع نطاق ممكن. من هنا بدأت تلوح في الأفق نُذر حرب غير معلنة لتقويض هذه الطّفرة المفاجئة في الحريّة التي حطّمت الأسوار وأباحت الأسرار أمام النّاس.

إنّ الفتوى التي صدرت في الأردن مؤخّراً عن دار الإفتاء، والتي تحرّم التّواصل بين الجنسين بواسطة الإنترنت تصبّ في هذا المجال، وهي بحاجة لنقاش مستفيض حول ملاءمتها للعصر، وحول جدواها قبل كلّ شيء! أنا أعرف الحرص الذي ينتابنا على الأجيال الجديدة إزاء هذه العواصف العظيمة التي هبّت علينا في العقدين الأخيرين، وتحديداً العواصف التي أطلقتها ثورة المعلومات! ولكنّ معالجة الأمر والحفاظ على روحنا العربية الإسلامية لا يتأتّى بالمنع والتّحريم. إنّه يتأتّى عن طريق الحدب المتواصل على الأجيال الجديدة وبث روح الوعي فيها، وتدريبها على التّفكير.

[email protected]