هل جزّأنا الاستعمار فعلاً?

 هل صحيح, كما يتكرر دائما في الأدبيات السياسية العروبية والاسلامية, أنّ الاستعمار قام بتجزئة منطقتنا وبتجزئة شعبنا الذي كان, ذات مرة, واحدا?

اضافة اعلان

   أغلب الظن أن الجواب هو: لا. ذاك انه لم تكن هناك دولة عربية واحدة كي يتم تجزيئها, بل كانت هناك سلطنة عثمانية كنا, نحن في العالم العربي, مجرد أجزاء منها. والسلطنة هذه لم يقدم أحد على تجزئتها, بل انهزمت في الحرب العالمية الأولى ثم تصدعت ففرت منها المناطق المختلفة عنها, قوميا أو لغويا أو دينيا. وأبعد من هذا أن السلطنة لم تكن تلك الدولة المتماسكة التي أخضعها الاستعمار للتجزؤ, إذ هي أصلا بقيت دولة خارجية أو "برّانية" مشرعة على التفتت الذي ينتشر لحظة إعلانه. فهي على الدوام, حافظت على صلة الحد الأدنى بسكان اراضيها الشاسعة, لا يهمها منهم إلا تأمين الضرائب, وتجنيد المقاتلين. أما سائر الوظائف المنوطة بالدولة, والتي تمهد لدمج السكان, تعليما واقتصادا ورعاية, فبقيت خارج نطاق اهتمامها, متروكة لسادة المناطق المحليين.

فحين وفد الاستعمار الينا حمل معه الشكل التنظيمي الوحيد الذي عرفه من تجربته في اوروبا, وهو شكل الدولة -الامة. هكذا حاول أن يجعل من الشكل هذا وعاءً لذلك الكم الضخم من الشعوب التي خلّفها انهيار السلطنة فانتقلت الى عهدة الدول الاوروبية.

هل كان الاستعمار نزيها في رسمه خرائط البلدان التي أقامها وعين حدودها?

الجواب طبعا هو لا, لأن النزاهة مفهوم ينتمي, تعريفا, إلى عالم الأخلاق لا إلى عالم السياسة. ومنذ نيقولا ماكيافيللي في القرن السادس عشر فصل الأوروبيون السياسة عن الأخلاق. ما لا شك فيه, بالطبع, أنّ الدول الاستعمارية فيما هي ترسم ما ترسمه راعت متطلبات مصالحها وسيطرتها على الطرق الاستراتيجية, ووفرت شروط قدرتها على التمتع بالمواد الاولية. وهذا ما تفعله كل دولة يتسنى لها انشاء بلدان ورسم خرائط, اذ لا يعقل تاليا في اية دولة ان تنشئ وترسم ما يتعارض مع مصالحها تلك.

   بيد أنّ المسألة الفعلية تكمن في مكان آخر. ذلك أنّ الدول الاستعمارية اقدمت على ما اقدمت عليه من دون وجود اية مرجعية للدول الحديثة في تاريخنا وفي ثقافتنا السياسية. وبالمعنى هذا فهي انطلقت من الصفر أو ما يقاربه, فأخطأت مرة وأصابت مرة وصغَّرت هذا الكيان الوليد وكبَّرت ذاك.

    فهي لئن صغًّرت معظم دول الخليج مثلا, فإنّ تصغيرها استجاب لمصالح البلدان المستعمرة, مثلما استجاب لخريطة تمدد بعض القبائل والعصبيات في الخليج. وأبعد من هذا أنّ الدول التي كُبِّرت إنما كبِّرت اكثر مما أراد سكانها المحليون: فلو ترك الأمر مثلا لسكان لبنان الحالي كي ينشئوا هوية سياسية ودستورية لهم في 1920 لانشأوا أكثر من لبنان واحد. وتنم المعلومات التاريخية جميعا عن أنّ القرار لو ترك للمسيحيين لفضَّل معظمهم عدم العيش مع المسلمين, والشيء ذاته يقال في المسلمين تجاه المسيحيين, وفي السنة حيال الشيعة والدروز, أو الشيعة والدروز حيال السنة.

    والامر نفسه يصح في العراق وبلدان عربية أخرى, ذاك أن الاكراد مثلا انتفضوا هناك, مع ارتسام الدولة الجديدة مطالع القرن الماضي, بقيادة محمود الحفيد رافضين ضمهم إلى الدولة تلك. وهكذا تولّت الطائرات البريطانية إخضاعهم وضمّهم بالقوة إلى العراق الموحد. أمّا الشيعة فليس سرا أنّ علاقتهم بالدولة العراقية المركزية ظلّت على الدوام متوترة, وهم غالبا ما نظروا اليها بحق على أنّها دولة سنية تستعبدهم وتهمشهم.

     وهكذا يمكن القول إنّ الاستعمار وحّد بعض البلدان أكثر مما جزأها, فيما جزأ بعض البلدان أكثر ممّا وحّدها. وقد سبق للزميل التونسي صالح بشير أن بيّن, في مقالة له في"الحياة" اللندنية, كيف ان المغرب ربما كان البلد العربي الوحيد الذي يصح فيه الكلام السائد عن التجزئة, فهو الذي قُسِّم إلى منطقتي نفوذ فرنسية واسبانية فيما انتزعت منه موريتانيا.

    وكانت الحجة العروبية - الإسلامية لتصح لو أنّ البلدان الغربية جزّأت كيانا قائما بذاته كمصر, إلا أنّ هذا لم يحصل. أمّا بلدان سورية الطبيعية فلم تكن مرة بلدا واحدا حتى يقال ان المعاهدة الشهيرة التي عرفت باسم صاحبيها سايكس وبيكو كانت تجزيئية, فالبعض قد يرى فيها, وهذا صحيح, أنّها تنطوي على حنث بالوعود المقطوعة لفيصل الاول, وأنّها مهدت لوعد بلفور, وأقرّت تقاسما للنفوذ بين البريطانيين والفرنسيين غير أنّ هذه الأحكام شيء وزعم التجزيء لمنطقة موحدة شيء آخر. ففي الحالة الاولى تتداخل اعتبارات النفوذ والمصالح مع عجز منطقتنا عن التدخل في تقرير شأنها الذاتي مقروناً بالعجز عن تطوير صورة بديلة لدولة عصرية موحدة. اما الافتراض الثاني فيبقى مداعبة لأوهام لا تزال ترافقنا حتى اليوم. وأخطر مما عداه أن الاوهام هذه إنما تمضي في تغذية تصوراتنا التآمرية التي تعفينا من كل مسؤولية عما حل بنا ويحل.

    والحال أننا إذ نراجع أوضاع البلدان التي انكسرت فيها الحدود الاستعمارية, اكان في العالم العربي ام افريقيا, تدهشنا هذه الحقيقة الرهيبة: ذلك أنّ الانكسار المذكور لم يؤد مرة واحدة إلى ولادة بلد أكبر حجماً من البلد الذي أقامه الاستعمار. العكس هو, دائما, ما كان يحصل.

كاتب لبناني مقيم في لندن