وقفة مع عيد العمّال

احتُفل، قبل أيّام قليلة، وعلى جاري العادة منذ إضراب شيكاغو الشهير في1 أيّار(مايو) 1886، بعيد العمّال. وهو، بادئ ذي بدء، مناسبة عالميّة، أو أمميّة، تحتفي بطبقة اجتماعيّة أنتجها نمط الانتاج الصناعيّ العابر للحدود، والذي رأى فيه كارل ماركس، وقبله سان سيمون وبرودون وباكونين وغيرهم، أنه ينشئ طبقة كونيّة تتعدّى القوميّات والأوطان والأديان والمذاهب.

اضافة اعلان

وقد كان آباء الاشتراكيّة العمّاليّة، لا سيّما ماركس، بالغي الحرص على التفريق بين العامل "البروليتاريّ" وبين "الفقير"، إذ الأوّل يصدر عن موقع محدّد في عمليّة الانتاج يميّزه عن "الفقر" وشعبويّة طرحه التي تفتقر الى سند اقتصاديّ.

على أن الأمور غدت اليوم، وبلا قياس، أعقد بكثير. فالقدرة على توظيف العمّال وعيدهم، وعلى استخدامهم كيفما اتّفق، وصلت مع الرئيس الإيرانيّ أحمدي نجاد الى توعّد "النظام الرأسماليّ الفاسد" بالاقتلاع. وغنيّ عن القول إن نجاد، المتطرّف في إسلاميّته الخمينيّة والمتشدّد في إيرانيّته، ليس أمميّاً ولا اشتراكيّاً بأي معنى من المعاني. أما في اسطنبول، في المقابل، فانطلقت التظاهرة الكبرى ضدّ حكومة رجب طيّب أردوغان الإسلاميّة، ولكنْ أيضاً ضدّ السياسة الأميركيّة.

واختلاط كهذا يدلّ الى عدد من الأمور اللافتة والمثيرة:

فأوّلاً، لا تنطبق مفاهيم "الطبقة العاملة" و"الأمميّة" العابرة للهويّات الجزئيّة (الدينيّة والطائفيّة والجهويّة والإثنيّة) إلاّ على البلدان الديموقراطيّة والرأسماليّة المتقدّمة. لكن مفهوم العمل هناك تغيّر كثيراً، فباتت المطرقة والمعول والمنجل، في زمن الاقتصاد الخدميّ ما بعد الصناعيّ، أدوات تصلح للمتاحف أكثر مما للإنتاج المعاصر.

ثانياً، وبسبب ضمور المعنى القديم للعمّاليّة، غدا في وسع كلّ طرف سياسيّ أو إيديولوجيّ أن يملأه بما يشاء، مستخدماً المناسبة الجاهزة لقول كلّ كلام، وأيّ كلام. في المعنى هذا تحوّل أحمدي نجاد، وهو سليل نظام صفّى، أوائل الثمانينيات، الحزب الشيوعيّ الإيرانيّ، الى أهمّ خطباء عيد العمال العالميّين.

ثالثاً، لم يعد مقبولاً المضيّ في طرح المسألة العمّاليّة، بالمعنى اليساريّ القديم، من قبل أطراف لم تراجع تجربة الاتّحاد السوفياتيّ السابق وكتلته الآفلة. فالتجربة المذكورة، وفي صدارتها العلاقة بالعمّال، ليست حدثاً عارضاً، لا على صعيد التطبيق ولا على صعيد النظريّة. أليس من المثير أن أكبر انتفاضة عمّاليّة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين هي تلك التي أطاحت الشيوعيّة البولنديّة بقيادة عامل المرافئ ليخ فاليسا؟

أما الذين هربوا من المأزق هذا، في بلداننا العربيّة وفي غيرها، لينضووا في شعبويّة الإسلام السياسيّ، فلم يفعلوا، في آخر المطاف، غير استئناف أزمتهم بشروط أردأ.

وهذا جميعاً لا يلغي واقع المسألة الاجتماعيّة في عالمنا، والتي تنبعث الآن بهمّة ونشاط في ظلّ عنوان حاكم هو أسعار السلع الغذائيّة. وقد كان من البائس حقّاً أن اليمين العاتي، لا سيّما مع إدارة جورج دبليو بوش، بذل جهده كلّه لتحويل الانتصار على الشيوعيّة السوفياتيّة، في الحرب الباردة، حرباً على المسألة الاجتماعيّة جملةً وتفصيلاً.

بيد أن الطرق القديمة أفلست تماماً وبات ملحّاً البحث عن علاجات أخرى يصعب ربطها بالعلاجات البائسة التي سبق لليسار المألوف أن قدّمها. فمما يسترعي الانتباه اليوم إحراز اليمين الأوروبيّ، وفي ذروة أزمة الجوع الراهنة، انتصارات بارزة أعادت سيلفيو بيرلوسكوني الى رئاسة الحكومة في روما، وحقّقت للمحافظين البريطانيّين، قبل أيّام قليلة، مكاسب غير مسبوقة منذ عقود في الانتخابات البلديّة والمحليّة، بما في ذلك بلديّة لندن "الحمراء". وهذا جميعاً بعد تولّي المسيحيّة الديموقراطيّة أنجيلا ميركل مستشاريّة ألمانيا، والديغوليّ نيكولا ساركوزي رئاسة الجمهوريّة الفرنسيّة. فإذا ما قُيّض للمحافظين البريطانيّين إطاحة منافسيهم العمّاليّين، على ما تجزم به استقصاءات الرأي العام كلّها، غدت إسبانيا البلد الكبير الوحيد في أوروبا الذي يحكمه اشتراكيّون (وهم، بالمناسبة، وفي ظلّ زاباتيرو، اشتراكيّون متّهمون باليمينيّة التي "تعمّق انخراط اسبانيا في الرأسماليّة")!

حاشية: لقد قدّم لبنان، ويقدّم، عيّنة تمثيليّة رفيعة على فهم البعض للعمل العمّاليّ والنقابيّ. فالذين يُبدون أشدّ الحماسة لتعديلات جذريّة ونوعيّة في الأجور، وهم في بيئة أحزاب 8 آذار المعارضة، يحتلّون الوسط التجاريّ بخيمهم ولا يتوقّفون عن ممارسة الخنق اليوميّ لاقتصاد البلد. أهمّ من هذا أنّهم، ومن خلال تمسّكهم بـ"سلاح المقاومة"، أي سلاح "حزب الله"، يمنعون العالم الخارجيّ من الاستثمار في لبنان، حائلين دون الثروة التي يريدون توزيعها بشكل أعدل.

ما يفعله أمثال هؤلاء لا تسمية له إلاّ تحطيم الدولة، ومن ثمّ المجتمع، باسم الطبقة العاملة ومصالحها المزعومة. يكفي القول إنهم أعلنوا عن رغبتهم في الإضراب قبل خمسين يوماً على ارتفاعات الأسعار!

كاتب لبناني