أبو عودة: الموقع الجغرافي للأردن جعل من تاريخه مراوحة بين النعمة والنقمة

رئيس الديوان الملكي الأسبق عدنان أبو عودة -(أرشيفية)
رئيس الديوان الملكي الأسبق عدنان أبو عودة -(أرشيفية)

عمان - الغد - رأى رئيس الديوان الملكي الأسبق عدنان أبو عودة أن الموقع الجغرافي للأردن "فرض عليه في تاريخه الحديث سياسات إقليمية واقتصادية وأمنية، في صراعه من أجل البقاء". وقال إن موقع الأردن الجغرافي "جعل من تاريخه الحديث مراوحة بين النعمة والنقمة، والاستقرار، على أي منهما يعتمد على إدارة الاقتصاد والعلاقات الخارجية". اضافة اعلان
وأضاف، خلال ندوة نظمتها جمعية القيادات الإدارية الأردنية أخيرا، وتحت عنوان "الأردن والجغرافيا"، أن الأردن في موقعه الجغرافي هو "الأفقر في الموارد الطبيعية بين اقوياء، فالدول المحيطة به، هي فلسطين ثم إسرائيل غرباً، وسورية شمالاً والعراق شرقاً والسعودية جنوباً".
وفيما يلي نص المحاضرة.
يؤكد بعض العلماء المتميزين أن الجغرافيا لا تصنع نجاح الأمم وفشلها أو ازدهارها وفقرها أو تقدمها وتخلفها، بل الإنسان هو الذي يفعل ذلك، من خلال تفاعله مع الجغرافيا بما تقدمه من فرص أو تحديات.
ومن هؤلاء العلماء الأميركيان Daron Acemangli من MIT  والآخر هو James Robinson من جامعة هارفرد، مؤلفا كتاب "لماذا تفشل الأمم؟".
في تعريفه للاستراتيجية يقول نابليون بونابارت "انها التوظيف الامثل للمكان والزمان عسكرياً ودبلوماسيا"، ويقول أيضاً "إذا عرفت جغرافية اي دولة عرفت سياستها الخارجية". والمكان في وضع الاستراتيجية هو الجغرافيا، اي نصف مكونها.
لهذا السبب اخترت هذا العنوان لمحاضرتي هذه، إذ من خلاله سأعرض لما يتعلق بنا في الأردن نجاحاً أو فشلاً، تقدماً أو تخلفاً بسبب رؤيتنا أو غيابها وتفاعلنا السياسي والتشريعي والإداري بالتحديات والفرص، التي واجهناها في الماضي ونواجهها اليوم. والرؤية ابتداء هي مسؤولية القيادة أو السلطة باعتبارها المسؤولة عن المبادرة تخطيطاً وسياسة وتشريعاً وإدارة.
وتاريخياً خضع الأردن في تاريخه الحديث، الذي يقترب من الـ94 عاماً، اي منذ قررت بريطانيا العظمى في نهاية الحرب العالمية الأولى، ان تنشئ دولة الأردن، بعد أن فصلته عن فلسطين بلفور - وايزمان/ الزعيم الصهيوني، وأول رئيس لدولة إسرائيل، خضع لثلاث رؤى: الاولى: رؤية المرحوم الملك عبدالله الاول، التي قامت على تأسيس الدولة، والثانية رؤية الملك حسين 1953 - 1999. والثالثة هي رؤية الملك عبدالله الثاني 1999 وحتى الآن، التي لا يمكن الحكم عليها لأنها ما زالت قيد التشكيل والحوار.
أما المرحوم الملك طلال فقد كان عهده قصيراً، ولم يكن أكثر من فترة انتقالية، وضع خلالها الدستور، وقبل الدخول في تفاصيل المحاضرة سأضيء أمامكم كشافاً ليساعدنا في تبين ما سيأتي بوضوح.
وهذا الكشاف يتألف من مكونين: الأول مفاهيمي وهو أن الحكم على القرارات التاريخية لا يجوز إصداره بمعطيات اليوم، بل في سياق معطيات الفترة التي صدرت فيها وذلك كي ننصف القرار وصاحبه وكي نحسن الإفادة من استذكار الحدث.
أما الثاني، فهو حقيقة تاريخية حيث تبنى الأردن منذ الاستقلال سياسة التحالف مع الغرب الصناعي، وذلك لضمان أمنه الوطني، وهو في موقعه الأضعف بين أقوياء، وفي إقليم لم يتوقف عن اختبار القلاقل والثورات والحروب، وأهمها في مواجهته لدولة توسعية هي إسرائيل الصهيونية.
الشاهد على ذلك أي تحالفه المتواصل مع الغرب الصناعي:
- في الحرب العالمية الثانية وقف الأردن ضد دول المحور أي ضد الفاشية. وفي الحرب الباردة وقف مع الدول الغربية ضد الشيوعية. وبعد الحرب الباردة أي في الوقت الحاضر، يقف مع الغرب في مكافحة الإرهاب ويعبر الأردن عن استراتيجيته هذه في سياسته الخارجية على طرح نفسه دائماً كعنصر استقرار في الإقليم، المهم دولياً، من ناحية كونه يصدر أكثر من نصف حاجة العالم من البترول، ومن ناحية مرور قناة السويس شريان التجارة والنقل العالمي في نفس الاقليم، ومن ناحية جواره لإسرائيل، التي انشأها ورعاها الغرب والتي تشكل أحد اسباب الحروب والتوتر الدائم في الإقليم حتى يومنا هذا، طالما انها ترفض السلام القائم على العدل بإقامة الدولة الفلسطينية.
جغرافياً يقع الأردن بين خطي عرض 29-34 شمال خط الاستواء، اي هو في منطقة مدارية، أي ذو طقس معتدل بالإجمال. 90 % من أرضه جافة، وما يقارب 9 % تسقط عليه الأمطار بشكل يسمح بالزراعة، وبخاصة في المنطقة الجبلية وهي سلسلة الجبال الممتدة من عجلون حتى الشراة، والزراعة تعني الاستقرار.
أما البقية فيصلح معظمها للرعي، وجزء من السهول مثل حوران ومادبا تصلح لزراعة الحبوب، ولذلك كان المجتمع الأردني حتى تأسيس الدولة مجتمعاً زراعياً ورعوياً. والزراعة والريع يعتمدان على الأمطار.
لكن غور الأردن اليوم الذي تشقه قناة الملك عبدالله والتي توفر له إمكانية الزراعة المروية يمكن له أن يصبح واحداً من أهم القطاعات الاقتصادية الإنتاجية، إذا ما أحسنت الحكومة توظيف الجغرافيا، وذلك بسبب كونه المنطقة الأقرب شمال خط الاستواء لأوروبا الشرقية، التي تحتاج إلى الخضراوات في فصل الشتاء، والتي ينتجها غور الأردن. إن سياسة بناء السدود لتوفير المياه التي شرعت فيها الحكومة في عقد السبعينيات هي سياسة حكيمة، لكنها غير كافية، والمطلوب هو توظيف الدبلوماسية لتطوير العلاقات التجارية بين الأردن وأوروبا الشرقية.
أما المناطق الجبلية، حيث الاعتماد في معظمه على مياه الأمطار، فتسمى فيها الزراعة بالبعلية، وبسبب تماس المنطقة الجبلية بالأراضي الجافة، وبسبب دورة المناخ، فإنها معرضة للقحط، وهذا الواقع أنشأ تحالفات عشائرية في المناطق الجبلية لمواجهة الرعاة الباحثين عن العشب في فترة القحط.
وفي موقعه الجغرافي فإن الأردن هو الأفقر في الموارد الطبيعية بين أقوياء، فالدول المحيطة به هي فلسطين ثم إسرائيل غرباً وسورية شمالاً والعراق شرقاً والسعودية جنوباً.
هذا الواقع وهذا الموقع فرضا على الأردن في تاريخه الحديث سياسات إقليمية واقتصادية وأمنية في صراعه من أجل البقاء، وجعل من تاريخه الحديث مراوحة بين "النعمة والنقمة" والاستقرار على أي منهما يعتمد على إدارة الاقتصاد والعلاقات الخارجية.
ففي حقبة تأسيس الدولة وانطلاقاً من هذه الرؤية حقق الأردن نجاحاً في حقلين رئيسيين، الأول هو مؤسسته الدفاعية جيشاً وأمناً، والثاني الإدارة المتميزة، وكان الفضل في ذلك لحكومة الانتداب البريطانية في تطوير الأردن نحو الحداثة والحماية، فالسعي للحداثة اتخذ ثلاثة أبعاد رئيسية هي إدخال القانون الغربي، والتعليم، والإدارة.
ولذلك بدأ الأردن يتطور في عهد التأسيس، محمياً بجيشه وبالوجود البريطان، ولم يدخل سوى حرب واحدة هي حرب العام 1948، وسوى نزاع سياسي واحد امتد لثلاث سنوات مع حكومة عموم فلسطين، وانتهى هذا النزاع باستشهاد الملك عبدالله المؤسس في القدس 1951، بعد أن قام الأردن بالتوسع غرباً بضمه الضفة الغربية المجاورة له جغرافياً.
وتوظيفاً للجغرافيا عام 1935 وافق الملك المؤسس في عهد الإمارة على مرور خط IPC من كركوك إلى حيفا في فلسطين حيث بنيت مصفاة في ظل الانتداب البريطاني، وقد اكتسب الأردن من ذلك عوائد عن مرور الأنبوب وحماية بريطانية حرصاً على مصالحها النفطية، وحينما احتلت إسرائيل حيفا عام 1948 توقف IPC.
ولكن في العام 1949 مر خط جديد من حوض البقيع في السعودية عبر الأردن وسورية (الجولان) إلى صيدا في لبنان وفضلاً عن العوائد فقد استفاد الأردن نفطياً حينما مد خطاً لمصفاة الزرقاء مستفيداً من مرور الخط في أراضيه مؤكداً اهميته الاستراتيجية، وفي حرب حزيران 1967 حينما احتلت إسرائيل الجولان حيث يمر خط التابلان لم توقف إسرائيل ضخ النفط، حتى العام 1967، حينما دخلت القوات السورية لبنان فأوقفته إضعافاً للوجود السوري في لبنان، لكن الخط الفرعي لمصفاة الزرقاء استمر في نقل النفط الخام "ارامكو" حتى العام 1990، حينما عوقب الأردن بموقفه من غزو الكويت، وعدم انضمامه لتحالف الراغبين، الذي انضمت إليه سورية ومصر وذلك بإيقاف الضخ في خط الزرقاء.
لجأ حينها الأردن إلى صدام حسين، الذي عوضه ببيع النفط بسعر معقول، فنشأت أساطيل النقل البري للنفط واستمر الحال حتى العام 2003 حينما احتلت أميركا العراق وأسقطت نظام صدام، ومنذ ذلك التاريخ دخلنا أزمة الطاقة التي نعاني منها اليوم.
الجغرافيا وحقبة البناء في عهد الراحل الملك حسين:
رؤية المرحوم الملك حسين، التي ميزت عهده الذي استمر 46 عاماً تميزت بما يلي: مواصلة عملية الدمج بين الضفتين، حماية المملكة من تبعات حرب 1948، الانفتاح على العالم الجديد، التعجيل في عملية التحديث وبخاصة في حقلي التعليم والاقتصاد والتنمية والمواصلات داخلياً وخارجياً، استكمال الاستقلال والارتباط بالمصالح الغربية حماية لدول الخليج النفطية وحماية للأردن.
وحتى نقدر حقاً إنجازات عهد الحسين، لا بد من تذكر العقبات التي واجهها، وكيف وظف الجغرافيا في مواجهتها.
 حينما تولى الحكم كان قد مضى على الحرب الباردة كحالة دولية ست سنوات (استمرت من 1947 إلى 1990) وهذا يعني أن الحسين عايشها كلها تقريباً، وكان عليه ان يتعامل معها ويتشرب قوانينها ويوظفها في تحقيق اغراض بناء الدولة، وادرك الحسين في وقت مبكر عملية استكمال الأردن بتعريب الجيش كي يحسن من قدرته على اتخاذ القرارات الحرة في حماية مملكته وتحديثها.
وفي بداية حكمه كان الاقليم العربي قد بدأ يشهد الانقلابات العسكرية على الانظمة القائمة، ففي سورية حدث انقلاب عسكري عام 1949 اي بعد النكبة الفلسطينية بسنة واحدة، وتلاه انقلابان آخران هما انقلاب سامي الحناوي وانقلاب اديب الشيشكلي، وسورية هي الجار الشمالي المباشر للأردن. ثم تلاه الانقلاب العسكري في مصر العام 1952 وبداية الحكم الناصري، جميع الانقلابات السورية والانقلاب المصري وظفت هزيمة العرب في حربهم ضد إسرائيل والعواطف العربية الغاضبة التي نجمت عن تلك الهزيمة في تبرير تغيير انظمة الحكم.
وكان الأردن قد سبقهم ودفع الثمن باغتيال الملك عبدالله، وعملت هذه الحكومات العسكرية الانقلابية على حظر التعددية السياسية في بلادهم.
كانت رؤية الحسين بأن الوجود العسكري البريطاني في قيادة الجيش العربي الأردني نقطة ضعف، يمكن أن ينفد منها ضباط وطنيون في الجيش ويقوموا بانقلاب باسم فلسطين، فيدفع الأردن ثمناً جديداً، هو استقرار ورؤية الملك القائمة على حماية الدولة واستقرارها وتحديثها، فبادر مع ضباط أردنيين وطنيين، وعرّب الجيش بطرد قائده البريطاني والضباط البريطانيين في آذار 1956، وخلافاً للانقلابات العربية الثلاث في سورية ومصر حافظ الحسين على التعددية السياسية في الأردن باعتبارها قوام الدولة الحديثة التي أرادها. وبعد تعريب الجيش جرت انتخابات حرة وجاءت حكومة برلمانية برئاسة سليمان النابلسي زعيم الحزب الوطني الاشتراكي.
في تلك الفترة، العام 1956 وبعد تعريب الجيش وقع العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر، بعد أن أمم عبد الناصر قناة السويس، واكتسب عبدالناصر ثقة شعبية عربية منقطعة النظير، بعد تلك الحرب التي انتهت بتدخل ايزنهاور الرئيس الأميركي آنذاك والاتحاد السوفييتي بانسحاب القوى الثلاث المعتدية، وهو الأمر الذي جعل من عبدالناصر زعيماً عربياً بالرغم من إنهائه التعددية السياسية في بلده، مما جعل نظامه هو النظام المرغوب عربياً، اي ان الامة العربية آنذاك لم تهتم بالتعددية السياسية وكانت مستعدة للتضحية بها في سبيل حكم الفرد البطل.
وفي تلك الحقبة من التاريخ العربي كان من المستحيل ان تسمع أحداً أو تقرأ لأحد مطالبته بالتمسك بالتعددية، ولو أن شخصاً ما طالب بالديمقراطية لاتهمه الناس بالخيانة.
ومما عزز هذا التوجه السياسي العربي هو وجود الاتحاد السوفييتي كنموذج للحزب الواحد والذي كان يقدم للشعوب العربية نموذجاً يجدر تقليده باعتبار ان الاتحاد السوفييتي ذي نظام الحزب الواحد استطاع بأسلحته النووية ان يوازن باقتدار الدول الغربية الديمقراطية التي تحمل وصمة الدول الاستعمارية التي عانت منها الشعوب العربية كغيرها من الشعوب في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية. 
في الأردن طغت في تلك الفترة بدل الأحزاب البرامجية المنحلة، الأحزاب القومية واليسارية والايديولوجية، التي من عيوبها احتكار الحقيقة، اي عدم القبول بالتعددية اتساقاً مع الأحزاب القومية واليسارية في العالم العربي كله.
لهذا السبب ونتيجة الإيمان بزعامة عبدالناصر قومياً توجهت الاحزاب الايديولوجية لتجنيد ما تستطيع من ضباط الجيش العربي في صفوفها باعتبار ان القوات المسلحة هي الوسيلة الافضل لتقريب المسافة بين الحزب وتسلم السلطة. وكان الأردن في وضع شاذ، فبينما كانت حكومته من نتاج التعددية لم تتوان الأحزاب المشاركة في الحكومة والبرلمان من التوجه للجيش للتوصل للحكم ما سبب قلقاً للملك، وقام بانقلابه الاستباقي في نيسان العام 1957 على الحكومة، وسار الأردن منذ ذلك الحين على ذات الطريق التي سارت عليها مصر وسورية وذلك بإلغائه التعددية السياسية.
وتبع الأردن بعد عام واحد العراق حينما قام الجيش بانقلابه وفتح الطريق أمام العسكر والحزب الواحد للحكم. والفرق أن انقلاب الحسين كان استباقاً للحفاظ على نظام الحكم، ولم يكن انقلاباً لوصول العسكر إلى الحكم، إلغاء التعددية السياسية أدخل الدول العربية مسار الحكم الاوتوفراطي الذي يعيش كل العرب اليوم في ظله شرقاً وغرباً ما عدا لبنان، وذلك منذ ستين عاماً.
وإذا جاز لنا ان نميز بين أوتوقراطية الأردن وأوتوقراطيات العسكر الجمهوريين، فإن الأردنية يمكن ان نسميها أوتوقراطية ناعمة، والأخريات أوتوقراطيات خشنة، أو إذا أردنا استخدام التعبير السائد في مرض السرطان نقول ان اوتوقراطية الأردن كانت وما زالت حميدة، والاوتوقراطيات الأخرى خبيثة، فالاوتوقراطية الأردنية مثلاً لم تبطش بالمعارضة قتلاً واغتيالاً ونفياً، بل اكتفت بسجنها عند المنزلقات أو المضايقة عليها بمنعها من ممارسة اي نوع من انواع النشاط السياسي الحزبي كتابة أو تنظيمياً، اما اتوقراطيات الانظمة الجمهورية فكانت اكثر قسوة وفتكاً بالمعارضة لأنها كانت تعتبر الضباط عدواً محتملاً، وذلك لانها جاءت من نفس المصدر الذي قد يخرج منه مقاومون لهم يطمعون بالحكم.
وبعد انقلاب 1957 اعلن الرئيس الأميركي عن قيادته الدولية المستندة إلى مساعدة الدول في مكافحة الشيوعية، قبل الأردن بالمبدأ لأنه كان بحاجة إلى المعونات المالية بعد تعريب الجيش، وكان هنا منعطف مهم في تاريخ الأردن استمر حتى اليوم.
في اواخر الخمسينيات وحتى حرب حزيران 1967 انقسمت الدول العربية إلى معسكرين: الأول المعسكر الجمهوري الذي اطلق على نفسه التقدمي، والمعسكر الملكي المستهدف من الاحزاب الايديولوجية والذي اطلق عليه المعسكر الجمهوري اسم المعسكر الرجعي، ونشأ في المعسكر الملكي تنظيم هو الحلف الإسلامي. بالنسبة للشعوب العربية كان جمال عبدالناصر هو القائد القومي الذي اكتسب محبة وولاء الجماهير وبخاصة بعد العدوان الثلاثي، وفي خضم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي والتي كانت في عنفوانها حينما كان عبدالناصر بشخصه وإعلامه وبتسليحه للثوار الجزائريين في مقدمة انصار الثورة.
يشار إلى انه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوء الامم المتحدة كقاعدة للنظام العالمي الجديد كان من أهم التوجهات التي اعتمدتها بناء على الرغبة الأميركية هو تصفية الاستعمار. وبناء على ذلك اعتمدت لجنة تحمل هذا الاسم إلى الآن، وهي لجنة تصفية الاستعمار، لكن الدول المستعمرة وجميعها أوروبية غربية لم يكن من السهل اقتلاعها من الدول المستعمرة، بعضها أنهى استعماره بسهولة ويسر، وبعضها تمسك بمواقعه، الأمر الذي أدى إلى المجتمعين الآسيوي والإفريقي نشوء ثورات تتعجل انهاء الاستعمار، وكان عبدالناصر واحداً من اربعة قادة عالميين حملوا شعار انهاء الاستعمار (نهرو وسوكارنو وتيتو وعبدالناصر)، رأت القوى اليسارية في هذه القارات الزعماء الأربعة قادة موثوقين لدعم الشعوب الفقيرة المستضعفة.
بعد انقلاب الملك الاستباقي في 1957 اصبح الأردن هدفاً للإعلام المصري والسوري وكانت سورية دائماً لديها القدرة بسبب الجغرافيا على إيذاء الأردن، دون ان تفعل سوى إغلاق الحدود السورية الأردنية، وبالنسبة للأردن كانت بيروت هي الميناء الذي يستورد بضائعه من العالم الخارجي أو يصدر بضاعته إليه وبخاصة الفوسفات، إغلاق الحدود كان يعني شل الأردن.
وحينما اتحدت مصر مع سورية في 1958/2/1 صار الوضع أكثر صعوبة لأن الاتحاد تم بين دولتين تناصبان الأردن العداء.
توجه الأردن لجارتيه العربيتين الأخريين في المعسكر الملكي، لدعمه، وأقام الاتحاد الهاشمي مع العراق في 14 شباط 1958 وفي 14 تموز من نفس العام وقع انقلاب عسكري في العراق وأطاح بالنظام الملكي الهاشمي، ولم يبق أمام الأردن في معركة البقاء سوى التوجه للسعودية وإيران، فيما أطلق عليه الحلف الإسلامي. وبخاصة أن الانقلاب العراقي أخرج العراق من حلف بغداد المؤلف من تركيا والعراق وباكستان.
استمر وضع الأردن في تلقي الهجوم اليومي والمؤامرات لدرجة أن رئيس وزراء الأردن هزاع المجالي تم اغتياله في 25 آب 1960. كان الأردن في وضع صعب حيث اثنتان من الدول المجاورة أصبحتا معاديتين له بعد انقلاب العراق بالإضافة إلى مصر.
بدأ التوتر العربي الإسرائيلي في المنطقة حينما بدأت إسرائيل تتحرش بسورية في ظل حكم البعث، وتحشد قواتها على خط الهدنة معها، استنجدت سورية بمصر التي بدأت تحشد قواتها، لا لتحارب بل لتجهض الحشد الإسرائيلي مع سورية، بعد طلب مصر في الأمم المتحدة سحب القوات الدولية المتموضعة على جانبها مع الحدود الإسرائيلية أصبح الوضع قابلاً للانفجار، الأمر الذي حدا بالحسين إلى نسيان نزاعه مع مصر ودخل معها في معاهدة الدفاع العربي المشترك.
شنت إسرائيل عدوانها على مصر والأردن سورية والنتيجة معروفة ، تغيرت الخارطة العسكرية في المنطقة، وكذلك خارطة النقل والتجارة فضلاً عن انتاج موجات من النازحين وبخاصة  الفلسطينيين والسوريين.
لا أريد ان ادخل تفاصيل تعرفونها لكن سأعرض بعض المصطلحات والموافق التي حملها الناس معهم كمفردات أو عبارات أو مفاهيم خاطئة وبنوا عليها مواقف ووجهات نظر.
اولاً: اطلقت إسرائيل على عدوانها حرباً استباقية وهي في الحقيقة حرب وقائية، الفرق بين المصطلحين مهم، والاستباقية تعني أنها حرب اضطرت اليها إسرائيل لحماية نفسها من اعتداء وشيك عليها، اما الوقائية وهي حقيقة عدوان 1967 الإسرائيلي في تدمير الدول المجاورة وحرمانها من التقدم الذي سيجعل منها خطراً على إسرائيل. كانت إسرائيل تراقب التطور الاقتصادي المصري وبخاصة في حقلي التصنيع والري والزراعة، وكانت تخشى اذا تركت مصر لحالها ستصبح مثل تايوان أو كوريا الجنوبية، فكان لا بد من إجهاضها وإضعافها، وكان الوقت مناسباً حيث كان الجيش المصري في اليمن.
ثانياً: كانت اصعب حقبة في تاريخ إسرائيل هي الحقبة ما بين قيامها عام 1948 وحتى حرب حزيران 1967 اي تسعة عشر عاماً كانت فيها إسرائيل محاصرة عربياً ومقاطعة.
عدوان حزيران فتح الباب أمام إسرائيل للتواصل مع العرب بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الأمم المتحدة والموفدين الدوليين بحجة العمل على صياغة السلام بينها وبين جيرانها العرب، وانسحابها من أراضي الدول العربية، في نوفمبر 1967 صدر قرار مجلس الأمن 242 بهذا المعنى وأصبح هو مرجعية السلام.
نتيجة لذلك كان على الدول العربية ان تتعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة زميلة في الأمم المتحدة خاضعة لميثاقها، فنسيت الحكومات العربية الطبيعة الحقيقية لإسرائيل باعتبارها دولة توسعية دون حدود معرفة أي أغفل العرب عما أسميه القاطرة الصهيونية في دولة إسرائيل.
الوحيد الذي تنبأ بذلك هو الرئيس عبدالناصر، ولدي شاهدان على ذلك: الأول أنه قال بعد الهزيمة العسكرية ان ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. أما الثاني فهو نصيحته للمرحوم الحسين أثناء أول مقابلة لهما بعد الحرب بان يعمل الحسين كل ما في جهده وبأي وسيلة متاحة لاسترداد القدس والضفة الغربية، وهذا يعني ان عبدالناصر كان يتوقع ان إسرائيل الطامعة في ضم القدس وتوسيع حدودها باتجاه نهر الأردن، اي عدم انسحابها من الضفة الغربية أمر ستجهد إسرائيل لتحقيقه، الأمر الذي اعتبره الحسين ترخيصاً له بإجراء المحادثات السرية مع إسرائيل والتي صرح بها في لقاء وادي عربة، حيث وقعت معاهدة السلام أمام وسائل الإعلام العالمية.
ثالثاً: العمل الفدائي في الأردن ومواجهة الجيش الأردني مع المنظمات الفدائية وإخراجها من الأردن.
رابعاً: عن حرب أيلول وجود ثلاث روايات. الأولى رواية الفدائيين التي تتهم فيها الملك حسين بالتآمر مع إسرائيل وأميركا للقضاء على العمل الفدائي، وصدقت بعض الدول العربية وكل الشعوب هذه الرواية التي أسست للصراع السياسي بين الأردن ومنظمة التحرير لمدة ثمانية عشر عاماً، وتفككت الرواية بعد أن بدأت قيادات المنظمة منذ عدوان إسرائيل على لبنان 1982 في كتابة مذكراتها التي تضمنت اعترافهم بأخطائهم في الأردن.
الثانية هي القول بأنها حرب أهلية وقد انتشرت هذه الرواية وهذه التسمية حتى يومنا هذا، وكان وراءها إسرائيل والصحف الأميركية والغربية المؤيدة لها، أو تقع تحت تأثير المنظمات الصهيونية الغربية. فلماذا عملت إسرائيل على تكريس هذا المفهوم؟ لمن يعي الفكر الصهيوني وأهدافه يمكن ان يدرك ان إسرائيل تعتبر الضفة الغربية أرض إسرائيل بناء على مفهوم الحق التاريخي المزيف المضحك.
وللصهيونية ركيزتان: الأولى احتلال الأرض وقد فعلت في عدوان العام 1967 والثانية نقل اليهود المنتشرين في العالم لهذه الأرض وإخراج أصحاب الأرض الأصليين منها. وهنا علينا أن نتذكر الجغرافيا، فالأردن هو المجاور للضفة الغربية التي بعد ضمها أصبح سكانها أردنيين وبالتالي نظروا إلى الأردن باعتبارها الجزء الآخر من بلدهم. ان تسمية ما حدث في أيلول حربا أهلية هو محاولة لتثبيت مفهوم أن في الأردن بدأ صراع ما بين شعبين في أرض واحدة، وبذلك نشأ شرخ وتوسع حتى يأتي الوقت المناسب للضفة الغربية بدون سكانها الأصليين، وهذا ما يذكر في الأردن بمؤامرة الوطن البديل، إن تكريس مفهوم أردني وفلسطيني في الأردن هو استجابة بلهاء لهذه الحيلة.
والرواية الثالثة وهي الحقيقية أن المنظمات الفدائية في الأردن نتيجة تشكلها في احداث الثورة والمقاومة في الأرض المحتلة وبخاصة الايديولوجية منها أرادت الحفاظ على مكانتها بين الناس من خلال تفعيل ايدويولوجيتها القديمة، التعددية مقابل الرجعية، الأمر الذي أدى إلى انهيار الدولة التدريجي، فكان لا بد من استرجاع سلطة الدولة وكان أيلول.
خامسا: الصراع السياسي بين الأردن ومنظمة التحرير على الضفة الغربية، حيث سادت في السبعينات والثمانينات فكرة عند من لم يعرفوا الصهيونية بأن كل ما تطلبه إسرائيل هو الاعتراف بها، وإذا ما اعترفت منظمة التحرير بها ستتنازل عن الأرض المحتلة، لكن المسألة هي من سيعود إليها الأردن أم المنظمة، هذا الاعتقاد توج "بالممثل الشرعي الوحيد" وخلق صراعا سياسيا مع الأردن استمر حتى تموز 1988 بقرار فك العلاقة القانونية والإدارية مع الضفة الغربية.
ونستطيع القول إن الصراع السياسي بين الأردن والقيادات الفلسطينية الوطنية مر بمرحلتين: الأولى 1948 - 1951 والثانية 1972 - 1988.
لماذا استخدمت عام 1972؟ إننا في ذلك العام أدرك الملك حسين ان ما تسعى إليه المنظمة هو حكم الضفة الغربية، وكان يعرف أن إسرائيل وداعميها في العالم لن يقبلوا، حيث هو المقبول على الأقل في فترة المفاوضات، فقد قرر طمأنة المنظمات وداعميها من الدول العربية وعدم التسبب بالرعب لإسرائيل والغرق، قرر بالتقدم بتصور للعلاقة وتشكيل لجنة محلية كنت أحد اعضائها وخرجت في آذار 1972 بمشروع المملكة المتحدة، الذي يتصور قطرين أردني وفلسطيني متحدين فدراليا لكل منهما حكومته وبرلمانه، وللاثنين معا حكومة فدرالية وبرلمان فدرالي، رفض المشروع ثلاثة رؤساء "جولدا مائير وأنور السادات وأبو عمار".
وفي نفس العام وحرصا من المرحوم الملك حسين على تكذيب دعاية الحرب الأهلية شكل الاتحاد الوطني الأردني وكنت أمينه العام الثاني، وذلك بصدد قطع الطريق على قصة الحرب الأهلية.
اعتمد الملك حسين برؤيته العميقة وبسبب تجربته في الخمسينيات أسلوبا ناجحا يقوم على عدم الاعتماد على الغرب فقط، بل على شريك عربي من أعضاء الجامعة العربية يقف معه في حوارات الجامعة واجتماعات وزراء الخارجية العرب لتجنب الاستفراد به، وفي خلال حكمه اعتمد في الخمسينيات وحتى عدوان حزيران على السعودية وبعد حرب حزيران اعتمد على مصر عبدالناصر حتى 1970 حينما توفي الأخير، ثم 1971 اختار سورية التي عمل الأردن على السماح للرئيس حافظ الأسد بإدخال الجيش السوري إلى لبنان في بداية الحرب الأهلية اللبنانية:
وفي أوائل الثمانينات وبعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية ووقوف سورية إلى جانب إيران أصبح شريكه العربي صدام حسين واستمر هذا حتى اوسلو واتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية (وادي عربة) 1994 لأن الوضع الاستراتيجي للأردن قد تغير بعد معاهدة السلام من موقع الافتراض ان إسرائيل لم تصبح العدو التوسعي بواسطة معاهدة السلام ومنع تقدمه شرقا.
لكن اغتيال رابين في تشرين الثاني 1995 ومجيء بيريز الذي تلاه حكم نتنياهو بدأ الشك في استكمال عملية تثبيت العدو والتوسع الإسرائيلي شرقا باتجاه الأردن بضم الضفة الغربية، وإبعاد الفلسطينيين باتجاه الأردن يتسرب إليه، وربما أوضح دليل على ذلك هي الرسالة التي بعث بها إلى نتنياهو في آذار 1997 بعد أن رفض الأخير نقل أبو عمار من عمان إلى غزة بالطائرة الملكية، وسأذكر المقتطفات التالية كي ندرك بداية تسرب الشك لديه من نوايا إسرائيل.
تقول الرسالة "إن الألم العظيم والعميق ليعتصرني لما قمتم به من أعمال مأساوية كرئيس لحكومة إسرائيل جاعلين السلام، وهو أكثر الاهداف قيمة في حياتي يبدو وكأنه السراب (الأعمال المأساوية التي يشير اليها الملك كان أهمها بناء مستوطنة في أبو غنيم جنوب القدس وفتح النفق الذي يؤدي إلى القدس) وأكمل الملك لماذا هذه الإهانات المتعددة للذين تسمونهم شركاءكم الفلسطينيين؟ وهل يمكن ان تزدهر علاقة جديرة في غياب الاحترام والثقة المتبادلة؟ كيف يمكن العمل معكم كشريك وصديق حقيقي في ظل هذا المناخ المربك والمشوش؟ نشعر بأن هناك نية لتدمير كل ما قمنا ببنائه بين شعبينا ودولتينا....".
من الرسالة تفهم ان رؤية الملك حسين بحماية الأردن من خلال قيام دولة فلسطينية تثبت الصهيونية عند حدود حزيران 1967 بدأت تهتز فاستخدام كلمة نية، وهي أقوى من الشك بل تكاد تكون اتهاما.
في تلك الفترة بدأ المرض يدب في جسم الحسين وتوفاه الله في شباط 1999، أي بعد أقل من عامين على الرسالة المذكورة.
يقول الفليسوف الألماني الهنغازي Gellnen ان القرون ليست متساوية وتنتهي بأحداث مهمة، القرن العشرون مثلا بدأ مع الحرب العالمية الأولى 1914 وانتهى بنهاية الحرب الباردة 1990، اي أنه كان قرنا من 76 عاما، يجدر بالذكر ان نتذكر أن الملك حسين عاش أربعة وستين عاما في القرن العشرين، حكم منها ستة وأربعين عاما، وهو بهذا المعنى كان من رجالات القرن العشرين، وان كان زعيما لدولة نامية فقيرة، فالاعتراف بالمكانة التي احتلها في نظر العالم كان حضور معظم زعماء العالم لجنازته.
وتلخيصا لرؤية جلالة الملك الحسين فقد حقق فيها في مجالات التحديث والتنمية:
أعد ميناء العقبة للتخلص من الابتزاز السوري، بنى قناة الغور الشرقية لتوسيع الزراعة المروية في الأغوار، بنى المصفاة في الزرقاء، أسس الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وجامعة العلوم والتكنولوجيا وفتح الباب أمام الجامعات الخاصة، أسس شركة الطيران الأردنية كناقل، وطد علاقته مع الغرب من خلال استراتيجية حماية دول الخليج التي ذهب إليها الأردنيون مسلحين بقدراتهم العلمية والإدارية التي احتاجت لها دول الخليج في تأسيس خدماتها وبيروقراطيتها.
أما في مجال الخدمات فقد فتح الطرق بحيث أصبح الأردن من الدول النامية القليلة التي يتمتع فيها بشبكة طرق واسعة، بنى المدينة الطبية والمستشفيات الحكومية في كل المدن، تواصل بناء المدارس مع الزيادة السكانية، سمح بتشكيل النقابات المهنية والعمالية ومؤسسة أو وزارة الاسكان.