"أيام عمان": معاينة نقدية لعروض مسرحية متنوّعة وقوية

"أيام عمان": معاينة نقدية لعروض مسرحية متنوّعة وقوية
"أيام عمان": معاينة نقدية لعروض مسرحية متنوّعة وقوية

 

بول شاؤول

عمان- أيام عمان المسرحية الرابعة عشرة "مسرح الفوانيس" امتدت متنوعة خصبة من 27 آذار وحتى السادس من نيسان، لتضم فعاليات مسرحية عربية وأجنبية، وأفلاماً سينمائية، وشعراً جاء هذه الدورة على منصات مسرحية.

اضافة اعلان

وكان الافتتاح ملأ الشوارع ناقلاً المسرح الى احتفال شعبي وثقافي، اخترق بعض شوارع عمان، بمواكبة موسيقية، وغنائية راقصة، أكسبت هذه التظاهرة نكهة شعبية، احتفالية، واجتماعية.

تلونت بعض الشوارع "التاريخية" بأداءات التنورة، وبفرق موسيقية، وبجمهور من كل الفئات والأعمار. كأنه المفتتح الآخر، بعد المفتتح الرسمي الذي شارك فيه نائب أمين عمان عامر البشير، وأمين عام وزارة الثقافة جريس سماوي، ومدير المهرجان نادر عمران.

خمس عشرة مسرحية عربية وأجنبية قدمت على خشبتي مركز الحسين الثقافي والمركز الثقافي الملكي، وسنحاول التوقف عند بعض الأعمال التي كان لنا حضورها باعتبار أن تأخرنا عن المهرجان يوماً، وعودتنا قبل أن ينتهي حالا دون رؤيتنا بعض الأعمال.

هاملت

(فرقة ماركوس زوهز المسرحية، سويسرا) تأليف شكسبير، إخراج وتمثيل باتريشيا باربوياني وماركوس زوهز. إنها قراءة جديدة لأحد أشهر أعمال شكسبير: هاملت. لكن تم اختزال الممثلين الى اثنين: رجل وامرأة، ليقوما بمختلف الأدوار الأخرى. شخصيات "هاملت" تقمصها ممثلان، بكل تناقضاتها، واختلافاتها، وقوتها وضعفها: مونودراما بصوتين تختزن أصوات المسرحية. ولقد تمكن الممثلان، بقوة أدائهما، وبراعتهما، وتلون نبراتهما، وخصب مقاربتهما، من تجسيد حي لمختلف الأدوار. وقد نجح هذان الممثلان في ملء الخشبة على امتداد ساعتين، أي على امتداد تمثيل النص كاملاً. وفي غياب مؤثرات سينوغرافية، صوتية أو بصرية أو حتى جمالية "بدا الممثلان بحيث تمكنا من تقويض "الفقر" المسرحي الى غنى أدائي. لكن كان يمكن أن يختصر النص، أو أن يختزل (كما سبق أن حدث في كثير من الأعمال الشكسبيرية)، باعتبار ان ساعتين من الكلام المتواصل، على خشبة شبه عارية، أصاب الايقاع أحياناً بالرتابة، أو حتى بالتكرار الأدائي، مع هذا تقدم هذا العمل نابضاً، احترافياً، لمفهوم مسرحي واضح، وبمستوى عال من الحضور.

أوسكار

"أوسكار" للوك بيتون (فرنسا)؛ إنه عمل من أكثر الأعمال قرباً واحترافاً ودقة وحيوية. في هذا العمل الذي يستلهم أحياناً "الطيور" ومناخات غرائبية أخرى، متصلة بها، نكتشف جماليات ومشهديات، مصوغة بالجسد والخشب: بحيث بدت المناظر المتتالية، والمتنوعة بإيقاعاتها الجسدية، وتكاوينها الجمالية، معماريات متحركة في لقاء الجسد الحي، والمواد والأشكال الخشبية، من عصي، أو من أعواد، ابتكر انطلاقاً منها، تشاكيل موحية، قد لا تكون مدلولاتها مركبة، بقدر مشهدياتها، وقد لا تكون ذات ارهاصات، بقدر ما تصوغ عالماً من الايحاءات والرموز والغرائبيات: إنها رحلة الجسد الى عوالم داخلية ومتخيلة ومرئية وفضائية تكسبها، كثيراً من الدرامية: الجسد يعيش مسرحه الداخلي، والطيور جزء من هذه التعابير، ليتجاوز أن يكون مجرد اجتراح شكليات وجماليات لا تتجاوز سطوحها.

ساعة زايدة

"ساعة زايدة" تأليف وإخراج الزين العبيدي (المركز الوطني للفنون الدرامية بالكان، تونس). ثنائي أيضاً: بالصدفة وبلقاءات المعابر والمحطات والظروف الملتبسة، بين شخصين: وتنعقد بينهما، وسط أخذ ورد وصراع وغموض، علاقة بين اثنين، كل يحتاج الى الآخر: لقاء الصدفة هنا هو لقاء الحاجة؛ وتناقض الشخصيتين يكسب زخماً لمسار هذه العلاقة، المبنية عن لقاء صعلوكين بمعنى ان الشقاء عنصر مشترك بينهما، السينوغرافيا وظيفية الى حد ما. وجمالياتها لا تنافس التمثيل، مع اعتبار ان العناصر السينوغرافية كالإضاءة والماكياج والفضاءات الأخرى، لعبت أدواراً محدودة إذ بقي النص هو سيد العرض. الممثلان الزين العبيدي ومقداد الصالحي، عرفا كيف ينوعان أداءهما، لكن المبالغة أحياناً كانت تمتص الحالات الداخلية الملتبسة، وكان يمكن، وبشيء من الاحتراف، تقديم عرض أدائي متماسك. لكن مع هذا، كان لهذين الممثلين أن يلوحا بكثير من الوعود والاختراقات.

نساء السكسوفون

"نساء السكسوفون" (مسرح بابل لبنان): عن "برناردا" للوركا، اخراج جواد الأسدي. يستكمل المخرج الأسدي، معماريته الدرامية المتنوعة والخصبة والقوية، في هذا العمل المركب، الذي أراد به الأسدي تجاوز ظروف نصه اللوركاوي الأول، دلالاته الثلاثية (ثلاثينيات القرن الماضي)، ليحاول عبره اختراق الواقع العربي، بهشاشاته وكسوره، منطلقا من فكرة لوركا ان النظام البطريركي الأبوي المتسلط (العائلي - وصولاً الى دولة) من شأنه تفكيك "العائلة والناس، والبنى الاجتماعية والفكرية، ضمن نزاعات بين أفراده".

وبيّنت برناردا تريكان لبنان أو العراق أو فلسطين أو أي بلد آخر أدى جنون "السلطة" الى تدميره، أو تخريبه أو تقسيمه. انه الفحوى: وعلى ذلك شهدنا ربما ثلاثة نصوص متراكبة: نص لوركا (كمنطلق) وتعني مضامين أو متداخلين في النص الأصلي، واللذين شكلا المعبر المتسع للدلالات المعاصرة. وإذاً، لعبة نصوص. إذاً لعبة تميلن: نعم! ذلك ان جواد الأسدي من أكثر المخرجين العرب شغلاً على الممثل: إنه معمارية العمل الأول واللغة التي تحمل دلالات النص، وقراءاته، وبؤرته، من دون أن يغفل الأسدي، الاهتمام بالسينوغرافيا وبأدواتها: من إضاءة وتحرك على فضاء الخشبة وماكياج وملابس: ان يجمع بين قوة الممثل، ومشهدية العرض: أي الصوت والصورة المزدوجة البصرية والسمعية (هذا ما سبق أن رأيناه في العديد من مسرحياته: "الاغتصاب" العنبر رقم 6"، "الخادمات" "حمام بغداد"... إنها للحظة القصوى الموصولة التي تتداخل فيها ببراعة وبشعرية وبدرامية، وبعنف كيمائية الجسد والصوت والفضاء المسرحي... وصولاً الجمهور.

في هذا العمل المركب، والمتداخل، كان لنا أن نستمتع بإيقاعية متوترة، بلا فجوات تذكر، وبتلاوين أدائية عالية، مع جاهدة وهبي التي جمعت بين صوت جميل وظف لتكثيف الدراما بشكل لافت وبين حضور تمثيلي غير معلب وإنما حي، وتلقائي. وكذلك مع نادين جمعة، التي تقدمت بدور امتلكت مفرداته وجوانيته، ومساحاته، من دون القولية أو النموذجة، وإنما بطزاجة وسيولة لافتتين.

إيفون الهاشم، الملمح النقيض لشخصية نادين، يرغب في دور تلون على امتداد العرض حتى الاختلاف: الفتاة "المحافظة"، المتعلقة "بالعائلة" وموروثها، بنظاراتها، وكتبها، برعت في إمساك الدور من طرفيه، ومن منافسة الأدوار الأخرى، بماوية وحيوية فائضة.

رفعت طربية، أحد كبار الممثلين المسرحيين في لبنان، لعب دور الجدة: الذكورة على المسرح هويتها مسرحية، وكذلك الأنوثة. هو، بخبرة موغلة في تاريخ طويلة، جسد هذا الدور، بلمسة انسانية (ضميرية) وبسخرية، وبعبثية محببة، وبأداء خاص جداً، لم نعهده في أعماله السابقة: كأنه على المسرح نسمة هواء تخفق بجسد يضيع بالرغبات واللاجدوى والخوف والصمت: رفعت طربيه هو الدور وهو الشخصية وهو الممثل...

أما عايدة صبرا التي جاءت من "الباتوميم" الى الخشبة، فها هي، مسرحية بعد مسرحية، تختزن الخبرة وتفجرها بكل جهاتها، واشكالها، فأدركت في هذا العمل (دور الخادمة) إحدى القمم المسرحية العالمية في المسرح اللبناني والعربي: كأنها كانت ضابطة الايقاع، والحضور الذي يجمع مختلف حركات المسرحية وفواصلها ومشاهدها، تتنقل بين مشهد ومشهد، بنص متلون، قريب، وكأنه ارتجالي في فرط تملكه) وبنبرة "كلاوئية" (تهريجية) لتنقل الدور من دور "سردي" الى ادوار أخرى لتتجاوز الشخصية الاصلية عند لوركا: انه دورها جامع الايقاعات، ونصها جامع النصوص، تتفجر بها، كلها، كالجمرة الملتهبة على الخشبة.

هذا العمل أثبت فيه جواد الاسدي حسه العميق بالدخول الى عمق الشخصيات وتحويل دلالاتها وصوغه الممثل صوغاً، يجعل منه "معمارية" حية، بل المعمارية الاساسية في بنية العرض (براو).

سنديانة

"سنديانة" نص واخراج وسينوغرافيا زهيرة بن عمار (فرقة سنديانة للمسرح، تونس) زهيرة بن عمار قامة مسرحية عالية في المسرح التونسي اشتغلت مع كبار المسرحيين، من محمد ادريس إلى فاضل الجعايبي وسواهما.

هذه المرة ارادت أن تصنع مسرحياتها بنصها واخراجها وسينوغرافيتها، وهي مهمة ليست سهلة، من خلال امرأة غادرت التعليم بعد مرور عشرين سنة من التدريس، تلفت انتباه احدهم فيأتي للتحقيق، ومن ذلك تناول مسائل اساسية راهنة، وهواجس، كالانتماء والهوية والاختيار، اذاً زهيرة بن عمار وحدها على الخشبة في مونودراما، ذات اسكتشات متنوعة لكن ضمن لوحة بانورامية واحدة، تمكنت، من تقديم عرض ملون ، قوي، عنيف، صاخب، يجسد هشاشة المرأة وصلابتها معاً في واجهة نفسها والعالم. كأنها صوت واحد يحمل اصواتاً كثيرة. أو أصوات كثيرة اجتمعت في صرخة واحدة.

مدينة الناس

"مدينة الناس 1001" (فكرة ونص محمود ابو دوما، فرقة اديتا براون وفرقة الاسكندرية المسرحية، النمسا).

كأن هذا العمل، مع "نساء السكسوفون" و"اوسكار" من ابرز ما قدم، فهو في اختلافه وجديته وجديده وايقاعاته، وعناصره الدرامية من السينوغرافيا الى الموسيقى الى الاداء، الى الشغل على مساحة الخشبة، كون بنية متكاملة، عضوية وحساسة ورقيقة، وشعرية وحادة وموجة هي بنية ما بعد النص، لكن من دون انتقالات شكلانية او ضوضاء على صعيد العناصر الأخرى.

ممتع هذا العمل. غسل باجتراحاته السينوغرافية والكوريغرافية، مناخات غامضة، وشعورية مفتوحة. حيث كان للجسد (مع العناصر الأخرى) ان يكون رقصاً (باليه، رقص حديث) وايماء وتمثيلاً صامتاً وصوتاً بناء عضوياً، من تشكيل وجماليات طازجة، تنفذ، بجوهرها المسرحي إلى عمق المشاهد.

الاحداث الأليمة في حياة ابو حليمة

"الاحداث الأليمة في حياة ابو حليمة، مسرح الرواة المقدسي، فلسطين، اخراج جاكوب آمو، عمل مونودرامي نظيف. بقلم ينطلق من التفاصيل اليومية، والسيرة الذاتية ليكشف الواقع الذي يعيشه الفلسطيني في الارض المحتلة بعيداً عن الشعارات، والافكار الجاهزة وكذلك من الخطاب المعهود، وهذا ما اتاح ان يكون العمل ذا نبرة نقدية لمختلف القوى الراهنة.

الممثل اسماعيل الدباغ تمكن من السيطرة على ادواته على امتداد حضوره المونودرامي، وعلى تنويعها، ولو وقع أحياناً بالرتابة والتبسيط.

الظلال

"الظلال" اخراج هيثم عبد الرزاق، العراق، والنص مقتبس، هذا العمل في مضمونه دعوة الى نبذ فكرة الثأر والعنف وتحقيق العدالة خارج القانون، وهو دعوة الى "نسيان" الماضي والنظر الى المستقبل، خلاصة الموضوع ان امرأة اغتصبت قبل عشرين عاماً تلتقي (او تظن) الجاني. وتصر ان تعاقبه بنفسها، زوجها المحامي حاول ان يقنعها بأنه يمكن ان يكون اتهام هذا الشخص من صنع الخيال، ويحاول في الوقت ذاته ان يقنعها بأن عدالة القضاء والقانون هي وحدها الفيصل بديلاً من الانتقام، وفي هذا الاطار تحركت الشخصيات الثلاث في مواجهة عنيفة، متواصلة، ومادية ومعنوية، لتنعقد في النهاية على مصالحة ما بين الشخصيات الثلاث، واقتناع المرأة (الزوجة) بضرورة تكنيس الماضي والبدء من جديد.

العمل كلاسيكي نصاً واخراجاً: لكن اداء الممثلين الثلاثة ميمون الخالدي (الزوج المحامي) وسهى سالم (الزوجة) وفلاح ابراهيم (المتهم) جاء قوياً متنوعاً، متضارباً، خصباً، عنيفاً، بايقاعات متواصلة ومتصادمة بحيث انه اخرج العمل من فضائه الكلاسيكي الى فضاء درامي حي، ابرز فيه الممثلون طاقات غنية ومتماسكة، وحرفية شدت المتفرج على امتداد العرض، ميمون الخالدي، قدم احد اهم ادواره وعرف كيف ينوع في الشخصية الواحدة ويكثف طبقاتها ويلون ايقاعاتها.

سهى سالم المرأة المجروحة بكرامتها، العنيفة العنيدة الصلبة ، القوية، تمكنت من نقل هذه الحالات الدفينة الى مساحة متفجرة، لكن بمستوى عال من التماسك، فلاح ابراهيم المتهم فقدم ضمن دوره المحدد اداء مقنعاً بين دورين طاغيين. المسرحية جرح من جروح العراق وصرخة مدوية في وجه العنف والقتل والثأر ودعوة الى الاحتكام الى العدالة والدولة والقانون بعيداً عن سيطرة الغرائز وردود الفعل الصاخبة التي تجعل من الضحية شبيهاً بالجلاد.

* شاعر وصحافي وناقد لبناني