اسرائيل في مشهدين من العنصرية

   تُبرز مجريات الاسابيع الأخيرة في اسرائيل، على صعيد معارضة اليمين المتطرف لتطبيق خطة "فك الارتباط" واخلاء المستوطنات في قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، مشهدين من العنصرية، من خلال كيفية تعامل السلطة الرسمية وأجهزتها الأمنية مع المعارضين اليمينيين، الذين يستخدمون العنف حتى مع جنود الاحتلال، مقابل تعاملها مع العرب والقوى اليسارية اليهودية التي تعارض الاحتلال. ويمكن إثبات هذا التعامل العنصري ميدانيا من خلال مشهدين رئيسين.

اضافة اعلان

    المشهد الأول: درج المستوطنون وقوى اليمين المتطرف، في الاسابيع الأخيرة، على اغلاق شوارع مركزية جدا بين كبرى المدن ولفترات متفاوتة، لتعقبها ازدحامات مرورية لفترات أكبر. وتظهر أجهزة تطبيق القانون، من شرطة وغيرها، وكأنها عاجزة عن وقف هذه الظاهرة. فعلى الرغم من نشر عناصر أمنية في نقاط مركزية في هذه الشوارع من اجل منع اغلاقها، إلا انه يحظر على هذه العناصر "استخدام العنف" ضد المتظاهرين، بل ويحظر عليها حتى حمل العصي أو الدروع للحماية الشخصية، رغم تعرض عناصر الأمن، في كثير من الاحيان، لعنف المستوطنين الذي يصل حد الضرب.

     وبطبيعة الحال، تحدث في هذه الحالات اعتقالات بين صفوف المتظاهرين، لكن سرعان ما يتم اطلاق سراحهم دون تقديهم إلى محاكمات.

     وفي المقابل، لا تزال أحداث تشرين الأول 2000 في بلدات فلسطينيي 48، التي رافقت بدء العدوان الاسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة، مطروحة بقوة في الابحاث الاسرائيلية، من خلال تقرير لجنة التحقيق الرسمية التي حققت في تلك الاحداث، التي أقدم فيها افراد الشرطة وقوات ما يسمى بـ "حرس الحدود" على قتل 13 شابا فلسطينيا خلال اسبوع واحد، إضافة إلى اصابة اكثر من 400 شخص آخر. وكانت الحجة الرسمية للحكومة، ولا تزال، ان العرب اغلقوا شوارع مركزية في تلك الايام في اطار تظاهراتهم، وكان على أجهزة الأمن ان تفتح هذه الشوارع.

     وهذه الحجة عاد ليطرحها رئيس جهاز المخابرات السابق، آفي ديختر، الذي انهى ولايته قبل شهر ونصف الشهر، حتى انه قال في مقابلات صحافية نشرت قبل ثلاثة اسابيع: "لقد لقنا العرب في اسرائيل درسا في تشرين الأول 2000"! مما يؤكد الانطباع ان العدوان في تلك الفترة كان مخططا سلفا، لكن الاجهزة الأمنية كانت تنتظر الذريعة مهما كان قدرها.

     لقد أقرت لجنة التحقيق الرسمية التي عينتها الحكومة الاسرائيلية ذاتها، بعد حوالي ثلاثة اعوام من عملها، بان الشرطة تعاملت مع العرب في اسرائيل كأعداء وليس كمواطنين عاديين في اسرائيل، وذلك من خلال استخدام الشرطة وأذرع الأمن في حينه الاسلحة الرشاشة والقناصة كافة.

وعلى هامش هذا المشهد، نذكر انه في يوم الجمعة الأخير تصادف وجود نشطاء من اليسار الاسرائيلي في شوارع تل ابيب المركزية، كانوا يوزعون أشرطة زرقاء كعلامة تأييد لخطة الانسحاب، فيما كان الى جانبهم نشطاء اليمين يوزعون اشرطة برتقالية كعلامة لرفض الانسحاب، إلا ان افراد الشرطة حرروا مخالفات لنشطاء اليسار بحجة عرقلة السير، ولم يقتربوا من نشطاء اليمين، كما أكدت هذا وسائل اعلام اسرائيلية.

     المشهد الثاني يتعلق برفض الخدمة العسكرية: فمنذ سنوات، يواجه الجيش الاسرائيلي ظاهرة رفض الخدمة العسكرية من منطلق رفض خدمة الاحتلال. ويظهر هذا الرفض إما من خلال مواجهة عندما يكون المطلوب للخدمة صريحا، أو من خلال التهرب باختلاق حجج مختلفة. ويقدر اعداد هؤلاء الرافضين للخدمة بالمئات سنويا. لكن في الاشهر الأخيرة بدأت تظهر حالة رفض جديدة، من قبل جنود ينتمون إلى قوى اليمين، وذلك برفضهم المشاركة في اخلاء المستوطنات في قطاع غزة. ورغم أنه تم تسجيل حالات قليلة حتى الآن في هذا الإطار، إلا أن من المتوقع ازديادها، بالنظر إلى الدعوات الواضحة -حتى من اعضاء في الكنيست ورجال دين يهود من اليمين- تشجع الجنود على رفض المشاركة في الاخلاء.

     مع ذلك، يتعامل جهاز القضاء العسكري مع جنود اليمين بقفازات من حرير، ويفرض عليهم احكاما قليلة جدا، الى جانب حملة تأييد لهم في الشارع، واظهارهم على انهم ابطال. وفي المقابل، يقبع في السجون الإسرائيلية العسكرية سنويا العشرات، إن لم يكن المئات من الشبان الذين قرروا رفض التجنيد انطلاقا من بواعث ترتبط بالتزام الضمير ورفضهم لخطة الاحتلال، وكذلك جنود قرروا وقف خدمتهم بعد ان شاهدوا مآسي الاحتلال ميدانيا، ومن بين هؤلاء العشرات من الشبان العرب من الطائفة الدرزية، الذين تفرض عليهم الخدمة العسكرية وفق قانون جائر، إذ يرفض هؤلاء خيانة شعبهم والمشاركة في ذبحه. ونرى ان الاحكام التي تفرض على رافضي الاحتلال هي اضعاف مضاعفة لما يفرض على الرافضين من اليمين.

      ليس جديدا القول ان اسرائيل دولة عنصرية وفق المقاييس كافة، لكن عنصريتها المستفحلة ليست موجهة إلى العرب فقط، وانما إلى كل من يقف ضد الخط السياسي الرسمي لها.

     إن ما يحدث ميدانيا يؤكد من جديد ان الحكومة الاسرائيلية معنية بنشاط اليمين العنصري، لأنها تريد استثماره امام العالم لاظهار "مصاعب" مزعومة تواجهها حكومة اسرائيل لتنفيذ خطة الانسحاب من غزة. وهي تريد أن تقول للعالم: انه إذا كان الانسحاب من غزة قد أحدث مثل هذا الأمر في الشارع الاسرائيلي، فكيف سيكون الحال إذ جرى الحديث عن انسحاب من الضفة الغربية؟

     من اللافت للنظر ان وسائل الاعلام العالمية ركزت انظارها بشكل مكثف على اغلاق الشوارع مساء يوم الاثنين، وأفردت له حيزا جديا في نشراتها الاخبارية، فيما لم يحظ هذا الحدث إلا بحيز بسيط، وعلى هامش الاخبار في داخل اسرائيل ذاتها! وهذا ما يؤكد ان الدعاية الاسرائيلية في هذه الحالة كانت تقصد العالم وليس الشارع الاسرائيلي.

صحافي فلسطيني وكاتب سياسي مقيم في الناصرة