برنامج إنقاذ وطني وخريطة طريق

"جرت مياه كثيرة" خلال السنوات الأخيرة، وتغيّرت المعادلات والعلاقات التي كانت تحكم المشهد العام، فخلقت أسئلة واستحقاقات وتحديات كبرى، قابلتها إجابات قاصرة ومحاولات نخبوية ضيقة، ساهمت بدورها في تجذير الأزمات ومنحها طابع الجدية والخطورة، لضربها على أوتار حساسة وحيوية.

اضافة اعلان

بالأمس لخّص د. فهد الفانك جوهر الأزمة الحالية، في مقاله "نهاية الإدارة الأردنية" (في الزميلة الرأي)، عندما تحدّث عن العطاءات الحالية والسابقة في مجال التخطيط وإدارة المطارات والبريد والمؤسسات الاقتصادية والإدارية، وحتى في العلاقات العامة وتسويق المشاريع الحكومية، إذ باتت تُمنح جميعها إلى شركات أجنبية وخاصة، بينما هنالك عشرات الآلاف من الخبرات الأردنية المهاجرة والمُعطّلة.

السؤال الأكبر المتواري في مقال الفانك يتمثل بدراسة الأسباب التي أدت إلى هذه "النهاية المؤسفة" بعد أن كان الأردن أنموذجاً في الإدارة العامة وكفاءة الطاقات الإنسانية والتعليم والصحة وهيبة الدولة!

تغطس وراء هذا السؤال عشرات الأسئلة عن تدهور القطاع العام ومؤسساته الحيوية خلال السنوات الأحيرة وأزمة المعادلة السياسية (ضعف المؤسسات الدستورية) والعنف المجتمعي المتزايد والفساد والترهل..الخ.

فمن يستطيع أن يتنكّر لأزمة التعليم في الأردن، سواء الأساسي أو الحكومي أو العالي، ومخرجاتها المقبلة المرعبة، أو أزمة القضاء، والبرلمان، والإعلام الرسمي، والقيم الوطنية والثقافية، ووزارة الصحة، والضغوطات التي تتعرّض لها الطبقة الوسطى.

ثمة مقاربتان سادتا في أوساط القرار والتفكير في رسم السياسات العامة في السنوات السابقة، الأولى تنتمي للمدرسة الاقتصادية (الليبرالية الجديدة)، وما تزال الحاكمة في المسار الاقتصادي، بالرغم من خروج بعض رموزها من اللعبة، والثانية تتبنى المقاربة التقليدية والإمساك بالمعادلات التاريخية التي حكمت الدولة في العقود الماضية، وهذا ما لا يمكن تصوره مع تفكك الروافع التي كانت تحملها.

أبرز ما يميّز اللحظة الراهنة، بعد محاولة معالجة جوانب من الخلل، بواسطة عمليات الإزاحات والتغيير في إدارة المعادلة الداخلية وأدوار مؤسسات الدولة، هو الضبابية وعدم القدرة على رؤية متر واحد إلى الأمام.

يرى بعض السياسيين أنّ "الأزمات الحالية هي أعراض طبيعية لمخاض الإصلاحات الاقتصادية". هذا القول ربما يكون دقيقاً، لو كان قطار الإصلاح الاقتصادي على السكة الصحيحة له، لكن سياساته الحالية تُسقط قطاعات حيوية من حساباتها، كالسياحة والصناعات التحويلية والنقل الإقليمي، أمّا أخطر ما في هذه السياسات أنّها تجفف البنية التحتية (التعليم العام) لقوة الدولة ومواردها الاقتصادية، وتضر بالشريحة الكبرى من المواطنين غير القادرة على التكيف معها، ما يرفد عوامل التوتر الاجتماعي- السياسي.

من جهة أخرى، فإنّ البرنامج الاقتصادي، الذي سيطرت عليه غواية "الحلول السحرية" والنماذج الاقتصادية الوهمية، يواجه اليوم عجز الموازنة ومعضلة "الدوران حول الذات" في الديون ومعدلات البطالة والفقر، ويمارس سياسة "الهروب إلى أمام"، باللجوء إلى بيع ممتلكات الدولة وأصولها، وتضمين أخرى للشركات الأجنبية، والاكتفاء بدور "الجابي" للضرائب والرسوم وعوائد الخصخصة والمساعدات الخارجية.

أبرز ما تشير إليه إحداثيات اللحظة الراهنة، فشل رهانات البعض على حكومة تكنوقراطية منزوعة الدسم السياسي، مع برلمان مقزّم ومدجّن، لأنّ هذا "التفريغ" للسطح السياسي، أضعف تماماً روابط الصلة بين المواطن والحكم، وأنبت في القاع ما يهدد السلامة الوطنية بصورة واضحة، ودفع إلى التطاول على هيبة الدولة ومكانتها.

من الخطأ المبالغة في حجم الأزمات والتحديات، أمّا الخطيئة فهي "دفن الرأس في الرمال". وقد آن الأوان لبرنامج "إنقاذ وطني" تشهره حكومة كفؤة، تقودها شخصيات سياسية من طراز رفيع، تحظى بالقبول والمصداقية، وتقدم تصوراً توافقياً تشاورياً وخريطة طريق للمرحلة المقبلة المصيرية، تتزامن مع انتخابات نيابية مبكرة ترد الاعتبار لهذه المؤسسة الدستورية ومكانتها.

[email protected]